معمرو واشنطن

TT

اصغيت منتصف ليل امس الأول الى هنري كيسنجر (مع حفظ جميع الألقاب) في برنامج «لو دوبس» الاخباري. وكان وزير خارجية اميركا السابق ومتحدثها الدائم ضد الحرب في العراق، او كما قال على وجه التحديد، انه مع جيمس بيكر ضد ان تخوض اميركا الحرب وحيدة في العراق، من دون مشاركة دولية.

ويتقدم هنري كيسنجر صفا طويلا من الحمائم اليوم في موضوع العراق، بعدما تقدم صفا مفزعا من صناع الحرب ومزدري الأرواح في فيتنام وكمبوديا وبنغلادش ولبنان. وفي عهده وعهدته ارسلت وزارة الخارجية الى بيروت المستر روبرت غودلي سفيرا لدى لبنان. وكان المستر غودلي قبل ذلك سفيرا في سايغون. وعندما نشرنا سيرة المستر غودلي في «الاسبوع العربي» احتج لدى الناشر الراحل جورج ابو عضل، الذي دعاني الى اجتماع في منزله. وقال لي بكل تأدب ان ما كتبه محرر الشؤون اللبنانية الزميل سمير شاهين في هذا الصدد، اثار السفارة الاميركية، ثم قدم لي ترجمة بالانكليزية لما كتب، قال ان السفارة ارسلتها اليه. وسألته بماذا اجاب، فقال انه وعد بأن يبحث الأمر معي لنرى ماذا يمكن ان نفعل في هذا الصدد، لأن كلمة «فيتنام» اثارت الذعر في نفوس اللبنانيين والمسؤولين والجميع توجس شرا. وكان ذلك في بداية 1975. وكانوا ـ اي الجميع ـ على حق.

ويومها اجبت الناشر، بأن ما كتبه الزميل سمير شاهين، وهو من اكثر الصحافيين ادباً ومعرفة، كان مجموعة من الحقائق والتواريخ. فاذا كان اي من هذه الحقائق غير صحيح، فالحل الأمثل هو ان ترسل السفارة نفياً لما ورد. اما اذا كان الأمر غير ذلك فان افضل وسيلة لازالة مخاوف اللبنانيين هي ارسال سفير لم يأت من الفيتنام.

كانت لدى الكثيرين من اللبنانيين قناعة بأن هنري كيسنجر لعب دوراً سيئاً في حياتهم (او في موتهم). وقد لعب الدور المقابل طبعا السيد غروميكو الذي ارسل الى بيروت الكسندر سولداتوف. ولكن صورة هنري كيسنجر ظلت في أذهان العالم صورة الرجل الذي يجر خلفه خيطاً طويلاً من الخراب. ولذلك نقرأه الآن ونسمعه في شيء من عدم التصديق. جميع صقور واشنطن السابقين حمائم في العراق، حتى الجنرالات ـ او خصوصا ـ الذين قادوا الحرب لتحرير الكويت، من سكوكروفت الى شفارتزكوف وخصوصا ايضا الذين خاضوا الحرب الديبلوماسية ضد بغداد من بيكر الى ـ تكراراً، في الجزء السياسي ـ سكوكروفت الذي يعتبر الصوت الآخر لجورج بوش الأب.

هل تغير موقف هؤلاء جميعا من النظام العراقي؟ لا. في هذا الباب، لم يتغير اي شيء على الاطلاق. الشيء الأساسي الذي تغير هذه المرة، هو انه ليس هناك كويت محتلة. وبالتالي فان السعودية ضد ضرب العراق. وكذلك مصر. وكذلك سوريا التي دخلت التحالف في المرة الماضية. بل كذلك تركيا التي تخشى من اثار الانفجار على نفسها. وفي المرة الماضية انهى جورج بوش الأب تحرير الكويت ثم دخل فورا الى سلام مدريد. اما الآن فجورج بوش الابن منخرط في حرب فلسطين بلا اي مبادرة جدية على الاطلاق. انها صورة متغيرة تماما. ومعمرو واشنطن يعرفون بالتجربة والسليقة اشياء تغيب عن المستجدين.