طائر الوقواق في كارولاينا

TT

يمكن اعتبار الشغب الذي أثاره المسيحيون المحافظون حول قرار جامعة «نورث كارولاينا» الذي يشجع الطلاب الجدد على قراءة كتاب عن القرآن، واحدة من أكثر اللحظات المحرجة للولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر الماضي.

لماذا؟ لأنه يكشف عن جهل عميق بأميركا، ويكشف عن تقليد باهت لأساليب تلك البلدان العربية القمعية. اسألوا أنفسكم هذا السؤال: ما الذي سيكون رد فعل أسامة بن لادن إذا اكتشف أن احدى الجامعات العربية قد طلبت من الطلاب الجدد أن يقرأوا الكتاب المقدس بجزأيه العهد القديم والعهد الجديد؟

لا بدّ أنه سيفعل بالضبط ما راح يفعله الآن معارضو قرار جامعة «نورث كارولاينا» بحرقهم للكتاب المقرَّر ـ محاولة منع تنفيذه. الشيء الوحيد أن بن لادن لن يبالي بالمحاكم. إذ أن بناء كنيسة أو معبد يهودي أو بوذي بشكل علني هو ضد القانون في بعض البلدان العربية. هل هذا ما نسعى إلى تقليده؟

ومثلما أوضحت رسالة بُعثت في الفترة الأخيرة إلى جريدة «نيويورك تايمز»، فان المشكلة مع العالم اليوم لا تكمن في كون الطلبة الأميركيين قد طُلب منهم قراءة القرآن، بل ان الطلاب في الكثير من البلدان الاسلامية لم يُطلب منهم بعد قراءة نصوص دينية تنتمي إلى حضارات أخرى ـ ناهيك من النصوص الأولية المتعلقة بالديمقراطية الأميركية، مثل «إعلان الحقوق» و«الدستور» أو «الوثائق الفيدرالية».

وحقيقة جهلهم بهذه النصوص المتنوعة هي أحد مصادر ضعفهم، وحقيقة كوننا نتقبل كل هذه النصوص هي مصدر قوتنا. وما علينا أن نقوم به هو تجسيد هذا المبدأ عمليا داخل الولايات المتحدة لا أن نقوم بتقليد المواقف الظلامية.

فالقناعة التي ترى أن الجامعة الأميركية «نورث كارولاينا» قد خرقت بعض المحظورات الدستورية ضد الدين السائد في الولاية، عن طريق اقتراح قراءة كتاب «مقاربة القرآن: الإلهامات المبكرة» للطلاب الجدد، لم تعتبرها المحاكم الا هراء محضا.

اكتشفت أن ابنتي البالغة من العمر الية حة عشرة، تقرأ في مدرستها الثانوية سفر التكوين، وانجيل لوقا، ونشيد الأناشيد وسفر أيوب، كجزء من واجباتها المدرسية أثناء الصيف. وأنا مسرور لذلك، وكم أتمنى لو كانت قراءة القرآن ضمن واجباتها الأخرى.

أنا استوعب لماذا يشعر بعض الناس أنه من الخطأ بعد أن قتل الإرهابيون ثلاثة آلاف أميركي ـ باسم الإسلام ـ التوجه إلى القرآن وجعله أكثر الكتب مبيعا كي نفهم مَن هم. لكن ذلك لا يضايقني كأميركي. وقد أشعر بالضيق لو كنت مسلما. إذ سيزعجني أن الناس التفتوا إلى عقيدتي نتيجة فعل تدميري رهيب اقترفه الجناة باسم الإسلام، بدلا من الانجذاب العفوي لبعض البلدان التي تعكس رؤية الإسلام في تحقيق مجتمع عادل.

يجب القول إن حرية التفكير والتعدد الثقافي والسياسي الموجود في مدارسنا العامة هما اللذان يقومان بتغذية العقل النقدي. وهذا العقل النقدي هو جذر الابتكار، والبحث العلمي وروح التجريب والمغامرة التجارية.

بعد 11 سبتمبر الماضي مباشرة أصبحت أكثر الكتب المطلوبة ضمن قائمة أول مائة كتاب تبيعها المكتبة الانترنتية Amazon.com حول الشرق الأوسط والإسلام. مع ذلك لم يكن هناك اهتمام مواز في الدراسات الأميركية بين أوساط المثقفين العرب والمسلمين أو داخل الجامعات في العالمين العربي والإسلامي منذ هجمات 11 سبتمبر. وهذا ما يجعل المرء يتذكر ملاحظة هاري لايم الساخرة في فيلم «الرجل الثالث» عن أن ثلاثين سنة من العنف والحرائق والشغب تحت حكم أسرة بورجياس في إيطاليا أنتجت مايكل أنجيلو وليوناردو دافنشي وعصر النهضة، بينما لم تنتج خمسمائة سنة من السلم والأمن والانسجام الاجتماعي في سويسرا شيئا سوى الساعة المزودة بالوقواق الاصطناعي.

يقول الفيلسوف دافيد هارتمان في هذا الصدد: «الإطار المتناغم لا يخلق عقلا نقديا. إذ لن يكون هناك سوى حقيقة واحدة لا يمكن تحديها ولن يكون ممكنا خلق أي شرارة إبداع في هذا المناخ. وقوة أميركا كانت دائما تكمن في قدرتها على تحدي قناعاتها بتقديم بدائل ممكنة أخرى. وهذا ما يجبرك على تبرير أفكارك، وهذا التنافس في الأفكار هو ما يخلق التفوق».

بإمكاني أن أؤكد أن الإسلام يُدرَّس في كل جامعة أميركية قبل وبعد 11 سبتمبر. فأنا درست الإسلام واللغة العربية في جامعة مينيسوتا سنة .1971

فالولايات المتحدة ستكون دائما نموذجا قويا لكيفية ازدهار بلد ما في العصر الحديث، طالما استمرت ثقافتنا المستندة إلى الفضول المعرفي وروح البحث الحر والانفتاح الفكري. في الوقت الذي سيستمر العالمان العربي والإسلامي يتصارعان مع الحداثة، طالما أن طلاب المدارس الثانوية هناك لم تتح لهم فرصة قراءة سفر التكوين، وإنجيل لوقا ونشيد الأناشيد أثناء عطلاتهم الصيفية.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ (خاص بــ«الشرق الأوسط»)