مجرد نوتة في أوركسترا الموت الشامل

TT

لم تعد «الفظاعة النووية» تثير اي احساس بالرهبة والتوجس في واشنطن انطلاقا من الاثم الكبير الذي ورثته اميركا من هيروشيما.

على عكس هذا، تتشكل في الوجدان الاميركي الشعبي ملامح مشروعية، أو بالأحرى مقبولية، لإمكان حصول هجمات نووية جديدة. ففي ظل سياسات قصف الجمهور يوميا بأخبار الترويع التي تحرص على القول: «الارهابيون قادمون بالجراثيم والكيميائيات» فإن الناس الذين يجرفهم الهلع منذ 11 ايلول (سبتمبر) 2001، لم يعودوا يملكون «ترف الاعتراض» على السعير النووي المتزايد الوضوح.

وهكذا عندما اعلنت اسرائيل يوم الخميس الموافق 16 آب (أغسطس) الجاري، ان الرد على أي هجوم ينفذه صدام حسين عليها سيكون «محو العراق» بالنوويات، لم يعترض احد في الادارة الاميركية، فكان الذهول العالمي تقريبا من الصمت الاميركي أكبر من الذهول حيال فظاظة التهديد الاسرائيلي.

لقد حفل المسرح السياسي الدولي بكثير من الحروب والصراعات منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن لم يسبق، ان وصلت الوقاحة بأي دولة الى درجة القول انها «ستمحو» دولة أخرى بالاسلحة النووية. وبرغم ان «المحايات» اميركية المنشأ العلمي ان لم يكن الصنع التقني، فإن الادارة الاميركية لم ترد حتى عندما قيل ان طائرات «إف 15 ثاندر» القاذفة والمقاتلة الاميركية هي التي ستتولى القاء القنابل النووية على العراق وربما على غيره اذا نشبت الحرب!

محو العراق؟

تصوروا المدى الذي وصلت اليه الفظاعة. تصوروا اكثر، المدى الذي بلغته الاقتناعات والاحاسيس المتوحشة في واشنطن لمجرد نجاح «اللوبيات الصهيونية» في تصوير التهديد الاسرائيلي باستعمال الاسلحة النووية وكأنه «نوتة» صغيرة في اوركسترا الموت الشامل التي تعزف بقوة في كواليس الادارة الاميركية.

ولقد كان من المثير للهلع ان يتم الكشف في 15 آب (أغسطس) الجاري عن تقرير رسمي اميركي عرض على لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، في سياق جلسات النقاش المخصصة للمسألة العراقية. وفيه ان اسرائيل تهدد بـ «محو» دولة العراق اذا عمد صدام حسين الى استهدافها كما حصل في حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما اطلق عليها صواريخ «سكود» كما هو معروف.

الاشد اثارة ان تل أبيب لم تحاول ان تنفي بل على العكس، فقد سارع مستشار رئيس الحكومة دوري غولد الى تأكيد ما ورد في التقرير، حيث قال ان اسرائيل ستسارع الى الرد بقوة على أي هجوم عراقي، من دون ان تأخذ في الاعتبار أياً من المحاذير والعوائق التي كانت تعترضها خلال حرب الخليج الثانية، وفي هذا اشارة الى الضغوط التي مارستها ادارة جورج بوش الأب يومها لمنع تل أبيب من الرد، خوفا من انهيار التحالف الذي ضم أغلبية الدول العربية لانهاء الغزو العراقي للكويت.

وفي هذا السياق يقول مستشار ارييل شارون: «ان اسرائيل ليست مقيدة اليوم لأنه لا يوجد اي تحالف (...) واننا نملك الامكانات والحرية لفعل المناسب دفاعا عن سكان اسرائيل في حال قرر العراق ان يشملنا في حربه ضد الانسانية».

ربما كانت السطحية في اقامة الحسابات السياسية والتحالفية هي التي منعت واشنطن من الاعتراض على التهديد الاسرائيلي، على خلفية الافتراض التالي: اذا كانت تل أبيب تلوح بالسلاح النووي في غياب أي موافقة عربية أو تحالف عربي مع خطط جورج بوش لضرب العراق، فلا بد من ان تتوافر الموافقات والتحالفات، لقطع الطريق على العربدة الاسرائيلية، التي قد تتجاوز حدود التهديد الى التنفيذ العملي المجنون.

ولكن حتى لو وصلت الحسابات الى هذا المستوى من الدونية الانتهازية، فإن من غير المعقول ان تبتلع الادارة الاميركية سعيرا نوويا من هذا النوع. ليس لأنه يقوض اي احتمال لقيام عواصم عربية بعرض التحالف على واشنطن فحسب، بل لأنه يقوض الاسس السياسية التي تسعى واشنطن لاقامة الامبراطورية الاميركية عليها!

ان كلاما من هذا النوع يتطرق الى قضايا مثل الاسس والمبادئ والاخلاقيات والحقوق القانونية والحرية والديمقراطية وحرية الانسان، لم يعد يلقى اي اهتمام في الولايات المتحدة، وان كانت الادارة في واشنطن تعلن حروبها وتقرر تصنيفاتها للدول والشعوب على اساس هذه القيم والمثل.

وهكذا وبكل هدوء، وربما بكثير من الاغتباط جلس اعضاء لجنة الشؤون الخارجية واستمعوا الى تقرير مدقق عرضه الباحث الاميركي في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية انطوني كوردسمان، ويتناول الرد الاسرائيلي المحتمل على أي هجوم عراقي، استناداً الى بيانات حكومية واستشارات واسعة مع مسؤولين في تل أبيب وواشنطن.

وجاء في التقرير انه في حال اقدم العراق على اطلاق الصواريخ على المدن الاسرائيلية وأوقع خسائر بشرية كبيرة فيها، فإن «اسرائيل سترد بهجوم نووي مستخدمة اسلحة، حتى اميركا لا تملكها وستؤدي الى محو العراق من الخريطة».

لا ندري اذا كان كوردسمان قد ووجه بعاصفة من التصفيق والحبور، عندما انتهى من قراءة تقريره، ولكن سرعان ما تبين ان احد الاهداف الدولية من وراء التلويح بالنوويات الاسرائيلية قد تحقق تلقائيا.

كيف؟

لقد «استخلص» انطوني كوردسمان ما يفترض ان يتبناه مخططو الحرب في كواليس البنتاغون: «قياسا بالاحتمالات المتعلقة باثارة رد نووي اسرائيلي ستعمد الولايات المتحدة الاميركية في المرحلة الاولى من الهجوم على العراق، الى بذل مجهود عسكري استثنائي لتعطيل احتمال لجوء العراقيين الى استعمال صواريخ «سكود» المثبتة في غرب العراق كما حصل في حرب الخليج الثانية».

هذا يعني ان بداية الهجوم الجوي والصاروخي، يمكن ان تتركز على مناطق غرب العراق، برغم تأكيدات متكررة صدرت في بغداد ان ليس هناك صواريخ في تلك المنطقة، وبرغم انه في وسع الاقمار الصناعية الاميركية ان تصور عناوين صحف الصباح على مكتب صدام حسين!

وفي الواقع لم يقتصر التلويح بـ «محو العراق» على تأكيدات دوري غولد، فقد انضم اليه سريعا قائد سلاح الجو الاسرائيلي دان حالوتس الذي توقع ان تبدأ الحرب في نهاية هذه السنة، لكن سرعان ما دخل ممتهنو عمليات التجميل والتمويه على الخط.

كيف؟

في 16 آب (أغسطس) الجاري اي في اليوم الثاني لقراءة تقرير كوردسمان وتصريحات دوري غولد، نقلت الصحف الاسرائيلية من واشنطن اجواء تفيد بأن التلويح بالرد النووي اربك الادارة الاميركية في بعض مستوياتها السياسية والديبلوماسية، وان هذا الأمر قد تكون له آثار محرجة وسلبية جدا تلقي بظلالها على الاحتمالات المتعلقة بتداعيات الحرب في العواصم العربية.

وهكذا تعمد المسؤولون في تل أبيب ان يتحدثوا بلهجة تراجعية، فقد سارع شارون الى تعميم تصريح يقول فيه: «ان الرد على اي هجوم عراقي لن يكون آليا بل منسقا عن قرب مع الولايات المتحدة الاميركية».

اما شمعون بيريس فقد اراد ان يكون انضباطيا اكثر عندما أعلن تكرارا: «ان اسرائيل ستكون جنديا صالحا في جيش الرئيس جورج بوش». وترك التزوير الديبلوماسي الى المستشار السياسي لشارون، زالمان شوفال الذي يملك صوتا مسموعا في واشنطن، حيث كان سفيرا هناك، والذي قال: «في اي حال ان تغيير النظام العراقي اساسي لانه سيقلب المعطيات في منطقة الشرق الاوسط ويدفع القيادة الفلسطينية باتجاه طريق التسوية».

لكن اقنعة الوداعة والديبلوماسية لم تكن خاتمة تطوي صفحة التهديد بالنوويات، فقد نقلت صحيفة «هآرتس» يوم الثلثاء الماضي معلومات تفصيلية جاءت بمثابة عرض للعضلات النووية. نقلا عن نشرة «نوكلير نوت بوك» الاميركية، وفيه ان المقاتلات الاميركية من طراز «إف 15 ثاندر» التي حصلت عليها اسرائيل عام 1988 من اميركا ستكون القوة الضاربة التي ستلقي القنابل النووية ردا على اي هجوم تتعرض له المدن الاسرائيلية.

ولا ندري اذا كان هذا يمثل مجرد محاولات للتذكير بعصا الرعب النووي التي تحملها اسرائيل، ولكنه في النهاية مجرد مجون اسرائيلي في سياق الجنون الاميركي.