... عقدة سيضطر العرب لحلها بأسنانهم!!

TT

قبل ايام فجر الزعيم الكردي مسعود البارزاني قنبلة سياسية مدوية عندما اعلن ان المناطق الشمالية من العراق ستتحول الى مقبرة للجنود الاتراك اذا حاول هؤلاء اجتياحها واحتلالها في اطار الحملة العسكرية الاميركية المرتقبة لاسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين واقامة نظام بديل على أساس الديمقراطية والتعددية السياسية ووفقا للفيدرالية التي تضمن لكل ابناء هذا البلد بكل طوائفهم ومذاهبهم واعراقهم المشاركة وعدم الشعور بالغبن وانتقاص الحقوق.

جاء هذا التحذير الواضح والصريح في اعقاب تصريح استفزازي مستغرب ادلى به وزير الدفاع التركي صباح الدين شاقماق أوغلو تحدث فيه عن ان ولاية الموصل العراقية «لا تزال» تعتبر جزءا من الاراضي التركية وفقا لقرار اتخذه البرلمان التركي في عام 1920. وولاية الموصل كما هو معروف كانت تضم في الفترة المشار اليها كل الاراضي الواقعة الى الشمال من جبال حمرين حتى الحدود التركية وفيها بالاضافة الى مدينة الموصل مدن السليمانية واربيل وكركوك ودهوك.

ومع ان جميع العواصم العربية بما في ذلك بغداد لاذت بالصمت ولم ترد على تصريحات أوغلو بما تضمنته من مؤشرات ودلالات سياسية خطرة ولم تلتقط تحذيرات البارزاني وتستقبلها بالدعم والمؤازرة، فقد حاول الاتراك تلطيف ما قاله وزير دفاعهم فأدلى الناطق الرسمي باسم الرئيس التركي نجدت سيزار بتصريح قال فيه ان هدف بلاده هو الحفاظ على وحدة الاراضي العراقية في حين ان صباح الدين شاقماق أوغلو قال انه قصد بما كان صرح به ان ولاية الموصل بحدودها واجزائها المشار اليها ولاية تركمانية.

والحقيقة ان مسارعة الاتراك الى تلطيف ما قاله وزير دفاعهم جاءت تلبية لتدخل اميركي فوري، فالولايات المتحدة التي تحاول بقدر الامكان تهدئة المنطقة قبل توجيه ضربتها «المقررة»(!!) للعراق بادرت الى اخراس الصوت التركي النشاز ودفعت وكيل وزارة الدفاع الاميركية دوغلاس فايث الى التأكيد على ان بلاده تضمن وحدة الاراضي العراقية وابلغت الاكراد في شمال العراق بأنها لا تزال عند تعهدها السابق الذي كانت قطعته لهم والذي ينص على عدم السماح لأي قوات تركية بدخول كردستان العراقية وعدم مشاركة اي قوات برية تركية بالاساس في حملة اسقاط نظام الرئيس العراقي.

لكن ورغم هذه التأكيدات فإن بعض «الايديولوجيين» الاتراك ما زالوا يعيشون احلام امكانية استعادة املاك الدولة العثمانية في الدول المجاورة وقد فتح شهيتهم في هذا الاتجاه احتلالهم جزءا من جزيرة قبرص في عام 1974 التي كانوا قد خرجوا منها في وقت مبكر تحت ضغط الامبراطورية البريطانية التي لا تزال لها قواعد عسكرية في هذه الجزيرة المتوسطية.

هناك اتراك ما زالوا يعتقدون بامكانية العودة الى بعض مناطق البلقان ويحلمون باستعادة بعض الجزر التي غدت جزءا من اليونان، وهناك اتراك ويبدو ان من بينهم صباح الدين شاقماق أوغلو ما زالوا يصرون على ان ولاية الموصل جزء من الاراضي التركية ويتحينون الفرص السانحة لاستعادة هذه الولاية التي كما تمت الاشارة اليها سابقا تشمل كل مدن وقرى مناطق شمال العراق من جبال حمرين في الوسط وحتى الحدود التركية.

ولمن لا يعرف هذا.. فإن هناك بندا في الموازنة التركية ينص على تخصيص ليرة واحدة لولاية الموصل وهذا يشبه عدم اعتراف الصين الشعبية بدولة تايوان وكتعبير عن الاصرار على ان حرب التحرير الشعبية ستبقى مستمرة ومتواصلة حتى تحرير هذه الجزيرة فإن الجيش الصيني يحرص على اطلاق قذيفة مدفعية واحدة في كل صباح في اتجاه الجزيرة المذكورة.

وينطلق الاتراك «الايديولوجيون» في ادعاءاتهم بالنسبة لولاية الموصل في ان الدولة العراقية التي اقامها الملك فيصل في بلاد ما بين النهرين لم تكن تشمل في السنتين الاوليين الا ولايتي البصرة وبغداد. وهؤلاء ما زالوا يتمسكون بقرار للبرلمان التركي في عام 1920 اعتبر الولاية المذكورة ولاية تركية وذلك مع ان هذه المسألة تمت تسويتها بين البريطانيين والفرنسيين وبموافقة مصطفى كمال «اتاتورك» في عام 1925 وذلك في الوقت نفسه الذي تمت فيه تسوية مسألة لواء الاسكندرون الذي بقيت سوريا حتى فترة قريبة تصر على انه ضمن الاراضي السورية.

هذا هو ما يختزنه العقل الباطني للاتراك «الايديولوجيين» الذين ما زالوا غاضبين لان العرب ثاروا عليهم وتخلصوا من احتلالهم. اما بالنسبة لحقيقة الامر فإن تركيا التي تعتبر نفسها الدولة الأهم والاعظم في الاقليم تنظر الى العراق على اعتبار انه الدولة المريضة وترى انه من حق الاتراك ان يكون لهم الدور الاساسي في رسم الصورة العراقية بعد التخلص من نظام صدام حسين.

ان تركيا بالاضافة الى الضغط والمساومة للحصول على عضوية الاتحاد الاوروبي ولحل المشكلة القبرصية العالقة بما يتفق مع تصوراتها وتوجهاتها تريد ان تتأكد مسبقا وبضمانات اميركية من ان لا يحصل اكراد العراق بعد اطاحة نظام صدام حسين على ما قد يشكل حافزا لاتراك تركيا بما هو اكثر وابعد من الحقوق الثقافية التي حصلوا عليها مؤخرا تحت ضغط الدول الاوروبية.

ترفض تركيا حصول اكراد العراق لا على الحكم الذاتي ولا على الفيدرالية ولا على الدولة المستقلة بالطبع. وهي تخشى من ان تكون هناك صفقة سرية أبرمت من وراء ظهرها بين الولايات المتحدة والحزبين الكرديين الرئيسيين، الحزب الديموقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني لحصول كردستان العراق على الاستقلال في المستقبل ولذلك فإنها تسعى لأن يكون لها دور عسكري مباشر في الحرب المرتقبة على العراق كما تسعى لأن يكون لها وجود عسكري دائم في المناطق الكردستانية العراقية.

وبالطبع فإن تركيا التي هدفها القريب هو هذا الهدف والتي هدفها البعيد هو ما قاله صباح الدين شاقماق اوغلو قبل ايام تحاول استغلال الاقلية التركمانية الصغيرة في العراق لتكون بمثابة «مسمار جحا» بالنسبة لمستقبل العراق. ولذلك فإنها تصر على ان عدد ابناء هذه الاقلية يصل الى اكثر من مليوني تركماني اي اكثر من عشرة اضعاف العدد الحقيقي لهؤلاء وانهم يشكلون الاكثرية السكانية في ولاية الموصل كلها اي مدينة الموصل وكل ما يقع الى الشمال من جبال حمرين في الوسط، وهذا ادعاء تكذبه الوقائع على الارض وفي السابق واللاحق وعلى مدى سنوات التاريخ القديم والحديث.

لا تزال تركيا، المستغلة الغياب العربي وحاجة الولايات المتحدة اليها، تصر على ان يكون دورها رئيسيا في رسم خريطة مستقبل العراق، ولا تزال تصر على ان لا يحقق اكراد العراق أيا من تطلعاتهم الوطنية لا على مستوى الحكم الذاتي المحدود ولا على مستوى شبه الدولة المستقلة في اطار الصيغة الفيدرالية المقترحة التي يجري الحديث عنها والتي يصر عليها الاكراد العراقيون بكل قواهم ومنظماتهم واحزابهم السياسية.

لم تترك الولايات المتحدة مناسبة إلا وأكدت خلالها على وحدة العراق وعلى ان استقلال المناطق الكردية العراقية عن دولة العراق غير مطروح ولا يمكن السماح به، ولم يترك الزعيم الكردي مسعود البارزاني مناسبة إلا وقال فيها ان الاكراد يعرفون ما هو ممكن وما هو غير ممكن، وان اقامة دولة كردية في شمال العراق غير مطروح وغير وارد، وان كل ما يسعى اليه الاكراد العراقيون هو عراق ديموقراطي يشارك فيه الاكراد العراقيون كمواطنين على قدم المساواة مع اشقائهم العرب، السنة والشيعة، وفي اطار دولة فيدرالية مركزها بغداد.

والمشكلة هنا انه بينما تقوم تركيا بما تقوم به وبينما مستقبل دولة عربية مطروح للمزايدات والمناقصات فإن الدول العربية تواصل سياسة الاختباء وراء الإصبع وتواصل مضغ عبارة: «اننا ضد أي عمل عسكري ضد العراق وضد التدخل في شؤونه الداخلية» على نحو اصبح مملا وغير مقنع بأن هذا الموقف هو الموقف العربي والفعلي والحقيقي.

إن الولايات المتحدة مصممة على العمل العسكري ضد العراق ومصممة على التدخل في شؤونه الداخلية، وهي تعلن وبإصرار متواصل انها ستسقط نظام صدام حسين وانها ستعيد صياغة الخريطة السياسية على اساس الصيغة الفيدرالية. وان تركيا تعلن كل هذا الذي تعلنه وتحاول استغلال الغياب العربي وخوف الغرب من الاقتراب من مائدة رسم صورة مستقبل دولة عربية لها حدود مع سوريا والاردن والعربية السعودية والكويت ومستقبلها سيكون له تأثير خطير وكبير على كل هذه الدول وحتى على الدول العربية البعيدة.

العرب ضد أي عمل عسكري ضد العراق.. هذا جيد ومهم وضروري والعرب ضد التدخل في شؤون هذه الدولة العربية الشقيقة.. وهذا تحصيل حاصل واضعف الايمان، لكن بما ان الولايات المتحدة مصرة ومصممة على العمل العسكري ضد العراق ومصرة ومصممة على التدخل في شؤونه الداخلية فهل ستبقى الدول العربية البعيدة والقريبة تتبع سياسة الاختباء وراء الاصبع وهل تترك لتركيا البقاء وحيدة على مائدة رسم مستقبل العراق الى جانب اميركا التي قد تستجيب لرغبات الاتراك في لحظة من اللحظات اما مراعاة لمصالحها واما نكاية بالمواقف العربية..؟!.

اذا كان العرب غير قادرين على ردِّ «القدر» والتصدي عسكريا للولايات المتحدة ومنعها من مهاجمة العراق فإن أقل ما يمكن فعله هو التحرك بدون خجل ولا وجل للحؤول دون استفراد الاميركيين والاتراك برسم مستقبل دولة عربية اساسية وان اقل ما يمكن فعله ان يشد العرب على يد مسعود البارزاني الذي رغم ظروفه الصعبة والدقيقة ورغم ان منطقته تعيش حصارا لا مثيل له، بل ورغم حاجته الماسة للمخارج والمعابر التركية فإنه لم يتردد في القول إن ولاية الموصل ومناطق شمال العراق ستتحول الى مقبرة للجنود الاتراك اذا حاولت القوات التركية غزوها واحتلالها لتنفيذ وتطبيق ما اعلنه وما قاله وزير الدفاع التركي صباح الدين شاقماق أوغلو في تصريحه الآنف الذكر.

ليأخذ العرب بعين الاعتبار ان ايران لن تقف على الحياد اذا شاركت تركيا بأي قوات برية في اي عمل عسكري ضد العراق واذا احتلت الموصل او كركوك او اي منطقة من مناطق شمال العراق، وليأخذ العرب بعين الاعتبار ان الاستنفار العسكري الايراني على الحدود الشمالية العراقية ليس المقصود به الولايات المتحدة بل تركيا كما ليأخذ العرب بعين الاعتبار ان غيابهم عن مائدة رسم خريطة العراق المستقبلية سيكلفهم الكثير في المستقبل... والمثل يقول إن العقدة التي لن تبادر الى حلها بأصابع يديك ستضطر يوما ما الى حلها بأسنانك!!.