المنطقة بانتظار خرائط سياسية جديدة!

TT

من بين العديد من الحقائق التي أكدتها انتفاضة الأقصى هناك حقيقة، أن المنطقة العربية أصبحت تتمدد فوق لغم كبير، وأن هناك احتقانا كان بانتظار الفرصة السانحة لينفجر مظاهرات صاخبة عمّت الوطن العربي الكبير من أقصاه إلى أقصاه ردّد خلالها المتظاهرون، الحانقون والغاضبون والمحبطون، شعارات سمعتها الأنظمة لأول مرة كانت موجهة إلى الواقع العربي أكثر مما هي موجهة إلى واقع ما يجري في الضفة الغربية وغزة.

ومعنى هذا أنه حتى لو توقفت انتفاضة الأقصى عند هذا الحد، لسبب أو لآخر، وبالطبع فإن الأسباب متوفرة بكثرة، فإن المنطقة مقبلة على خضّات عنيفة إن هي لن تشمل الدول والأقطار العربية كلها فإنها بالتأكيد ستشمل معظم هذه الدول، فكل دولة ستكون لها حصتها، وكل قطر سيصله شرر من النيران المتوقعة.

في عام 1948، خلّفت الحرب البائسة مأساة تمثلت بقيام دولة إسرائيل، وهِجرة عشرات الألوف من أبناء الشعب الفلسطيني إلى الدول المجاورة والبعيدة، لكن هذه المأساة ما لبثت أن اتخذت شكل الانقلابات العسكرية التي تلاحقت في منطقتنا العربية التي كانت في حقيقتها تنفيسا لاحتقانات داخلية أكثر مما هي انتصار للقضية الفلسطينية.

كانت المنطقة العربية في نهايات العقد الرابع من القرن الماضي تعاني من أمراض كثيرة وكان إحباط الشارع قد وصل الذروة وكانت الأنظمة تنشغل بمعاركها الجانبية بينما المواطنون يشعرون بالاستبعاد والاستفراد، فجاءت حرب الهزيمة الأولى لتنعكس انقلابات عسكرية، تلاحقت في العديد من الدول العربية، رفعت جميعها رايات الرد على هذه الهزيمة فكانت هي نفسها سبب كل الهزائم اللاحقة.

وفي عام 1967 خلفت الحرب الأكثر بؤسا، مأساة جديدة تمثلت في احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين وفي طرد موجات جديدة من أبناء الشعب الفلسطيني من وطنهم. وكان رد الفعل العربي احتضان ظاهرة الكفاح المسلح بديلا عن الجيوش الرسمية وانقلابات عسكرية كالانقلابات السابقة وحروباً أهلية كانت ذروتها الحرب الأهلية اللبنانية التي أكلت الأخضر واليابس ولا تزال آثارها تفعل فعلها في النسيج الاجتماعي اللبناني حتى الآن.

لا يمكن أن يحدث حريق في فلسطين إلا ويتناثر جمره وشرره ليشمل كل المنطقة العربية، هذا ما حدث بعد حربي 1948 و1967، وهذا ما كان سيحدث بعد انتفاضة 1987 لولا أن حرب الخليج الثانية داهمت الجميع فابتلع الحدث الأكبر الحدث الأصغر مع أنه لا يمكن الفصل بين هذا وذاك إذا نظرنا إلى الأمر من زواياه وجوانبه المتعددة.

لهذا فإن الاستجابة العربية لما جرى في فلسطين هذه المرة لن تقف عند حد المظاهرات وبيانات الشجب ومجرد التنفيس عن الصدور المحتقنة، فالمؤشرات والدلائل تنبّئ بأحداث جسام قادمة ومن لا يرى هذا مثله مثل النعامة التي عندما تستشعر الخطر تدفن رأسها في الرمال حتى لا ترى الحقيقة وحتى تقنع نفسها بأنها تقف على بر الأمان.

لأول مرة تتعرض الأنظمة العربية، كلها، لكل هذه الانتقادات التي بلغت حدود الشتم، ولأول مرة يسمع الحكام مسبّتهم بآذانهم فيتظاهرون بعدم السماع، وما جرى ولا يزال يجري يؤكد أن منطقتنا باتت تقف على فوهة بركان وأن الاحتقان ليس في فلسطين وحدها إنما في غالبية ومعظم الدول العربية من المحيط إلى الخليج.

لا شك في أن الفضائيات العربية فعلت فعلها وساهمت، بنقلها للمذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني إلى كل منزل من تطوان حتى البحرين، في تأجيج المشاعر وتسليح الناس بجرأة افتقدوها في المرات السابقة، لكن ومع ذلك وإلى جانب هذا، فإننا إذا نظرنا إلى الأمر من جوانب وزوايا أخرى فإننا سنرى بالتأكيد حقائق مرعبة بالفعل ستفجر أحداثا صاخبة قد تسفر عن خرائط سياسية جديدة في فترة قريبة.

في العديد من الدول العربية التي تعاني من احتقانات سياسية شديدة اندفعت قوى المعارضة السرية والعلنية إلى الشوارع تقود البسطاء من الناس الذين هزهم الحدث الفلسطيني بصوره المأساوية المرعبة، ونحن لو دقّقنا في حقيقة الشعارات التي رفعت والهتافات التي أُطلقت فإننا سنجد حتما أن المقصود هو أنظمة هذه الدول وأن المستهدف هو الواقع القائم في هذه الدول من الناحيتين السياسية والاقتصادية.

بعد الحربين البائستين، حرب عام 1948 وحرب عام 1967، اعتبر الضباط الذين انقلبوا على أنظمتهم أن هذه الأنظمة بترهلها وفسادها وارتباطاتها هي المسؤولة عن هاتين الهزيمتين البشعتين اللتين أدتا إلى ضياع كل فلسطين. وكانت بلاغات وبيانات الانقلابات قد استقبلت بالحماس الشديد قبل أن تتكشف الحقائق ويكتوي الوطن العربي بمآسي وويلات هذه الانقلابات.

والآن، فإن المظاهرات التي انطلقت في معظم المدن والعواصم العربية قامت بدورها بتحميل الأنظمة مسؤولية ما جرى وما يجري في فلسطين، ولقد ردد المتظاهرون نفس ما كان قاله الانقلابيون من «الضباط الأحرار» حول فساد هذه الأنظمة وترهلها وارتهانها للإرادة الأجنبية.

كل المظاهرات التي اجتاحت الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه رفعت لافتات الإصلاح وطالبت بالتغيير وإن هي في بعض الدول لم تسم الأشياء بأسمائها، والأسباب على هذا الصعيد متعددة وكثيرة. وكل هذه المظاهرات وهي تتسلح بالحدث الفلسطيني بلغت بها الجرأة إلى قول ما لم يكن بالإمكان قوله قبل انتفاضة الأقصى وقبل أن تنقل الفضائيات العربية والأجنبية تلك الصور المأساوية من غزة والقدس والضفة الغربية ومن الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948.

وبالتأكيد فإن كل الأنظمة العربية من دون استثناء، وصلتها الرسالة واضحة كل الوضوح وأدركت أن عواقب استمرار المذبحة الدامية في فلسطين ستكون واضحة، وأنه إذا لم تكن هناك إمكانية لنهوض ظاهرة الانقلابات العسكرية من جديد ومرة أخرى، فإن هناك إمكانية كبيرة لظاهرة التمردات الشعبية على غرار الثورة الإيرانية في عام 1979، وعلى غرار ما جرى في يوغوسلافيا وساحل العاج في الآونة الأخيرة.

بلغ الاحتقان ذروته في إيران في عقد السبعينات من القرن الماضي، ولأن الشاه محمد رضا بهلوي كان يسيطر على مواقع الفعل في الجيش الإيراني سيطرة كاملة، فقد اتجهت المعارضة التي كان يوجهها الخميني من الخارج بواسطة الأشرطة المسجلة إلى الجماهير مباشرة فكانت التمردات والمظاهرات المتلاحقة التي مع الوقت تحولت إلى وثبة نوعية فكانت ثورة فبراير (شباط) الجماهيرية التي تعتبر ظاهرة أساسية من ظواهر القرن العشرين مثلها مثل الثورة البلشفية التي انتصرت على النظام القيصري في روسيا في عام 1917 بقيادة لينين.

وحتى لا تقتصر أمثلتنا على الأحداث البعيدة فقط، فإنه لا بد من أن تأخذ الأنظمة العربية بعين الاعتبار أن القوى العربية والجماهير العربية أيضاً كانت قد تابعت بإعجاب واندهاش ما جرى في يوغوسلافيا وساحل العاج في الفترة الأخيرة، كما كانت قد تابعت بالاندهاش نفسه السهولة التي انهار بها الاتحاد السوفياتي وانهارت بها ألمانيا الديمقراطية وباقي دول المنظومة الاشتراكية.

لذلك فإنه لا بد من أن تدرك الأنظمة العربية كلها، التي وقفت بكل ثقلها إلى جانب الشعب الفلسطيني والتي كانت مساندتها بالمواربة ومن قبيل رفع العتب، أن هذه الثورات «السلمية» التي اسقطت أنظمة كانت تعتبر قوية ومتينة أثارت إعجاب الشارع العربي، بكل قواه الحزبية ونقاباته وتياراته السياسية، الذي اكتوى بنيران الانقلابات العسكرية والتغيير من خلال أبراج الدبابات وأصبح مولعا بالهبات الشعبية.

إذا لم تأخذ الأنظمة العربية، كلها ومن دون استثناء هذه الأمور بعين الاعتبار وتبدأ على الفور مراجعة حقيقية وفعلية لأوضاعها، فإن الزلازل ستداهمها حتما على حين غرة، وعندها فإنه من غير المفيد ضرب كف بكف ومن غير المجدي الحديث عن إصلاحات شاملة والسماح بهوامش مقبولة من الديمقراطية.

عندما تحرك الضباط إلى مواقع الحكم بعد الحرب المأساوية الأولى في عام 1948، والحرب الأكثر مأساوية في عام 1967، فإن الطريق الذي سلكوه إلى محطات الإذاعات للهيمنة عليها وبث بلاغاتهم العسكرية هو القضية الفلسطينية، فجميع العسكريين الذين وصلوا إلى الحكم بهذه الطريقة أعلنوا أنهم جاءوا لتحرير فلسطين، ورفَع بعضهم ذلك الشعار الجميل: «لا وحدة بلا فلسطين ولا فلسطين بلا وحدة».

لم يقل هؤلاء الضباط أن شهوة السيطرة والحكم هي التي جعلتهم يعتلون أبراج الدبابات للتخلص من أنظمة سابقة ثبت بالدليل القاطع أنها، رغم كل ما قيل بحقها، أفضل من أنظمتهم. بل قالوا إن هدفهم هو فلسطين وأنهم سيلقون بإسرائيل في البحر وسيعيدون للأمة مجدها الغابر «.. ولقد دقت ساعة العمل الثوري.. وتجوع يا سمك»! والواضح وفقا للهتافات التي أطلقت والشعارات التي رفعت انتصارا لانتفاضة الأقصى ومساندة لها، أن بعض القوى، كما في مصر والأردن وربما في اليمن والمغرب وأقطار عربية أخرى ليس من بينها لبنان، أرادت استغلال الفرصة لاستعراض قوتها. ووسيلتها للوصول إلى مواقع السلطة هذه المرة ليست أبراج الدبابات وإنما الجماهير الحانقة والغاضبة والمحبطة التي اتخمت بالتعبئة التي تصر على أن المأساة الفلسطينية ستبقى وستتواصل ما دام أن هذه الأنظمة قائمة.

في السابق، في ظل غياب المحطات الفضائية والانترنت والفاكس وكل هذا التطور التقني الهائل في وسائل الإعلام، كانت الأنظمة، خاصة أنظمة الانقلابات العسكرية، قادرة على إخفاء الحقائق، بعضها أو كلها، عن الشارع العربي سواء المنظم أو العفوي، أما الآن وقد بات الحدث، خاصة الحدث الفلسطيني بكل بشاعته ومأساويته، يدخل إلى كل منزل من دون استئذان، فإن قبضة هذه الأنظمة قد تراخت وغدا تحكُّم الشاشات الفضية بحركة الناس أكبر بكثير من تحكُّم الأجهزة الأمنية. ربما لن نشهد خلال شهر أو شهرين تمرداً شعبياً على غرار ما جرى في يوغوسلافيا وساحل العاج في الآونة الأخيرة، لكن مما لا شك فيه أن الشرارة وصلت إلى الحقل كله، وأن ما جرى في فلسطين وما قد يجري سيتجسّد تطورات مرتقبة في أكثر من دولة عربية، وهنا، وعندما يسمع بعض القادة والمسؤولين العرب الشتائم التي توجه إليهم حتى في شوارع عواصمهم وحتى من خلال شاشات تلفزيونات دولهم، فإن هذا يعني أن الأيام القادمة ستحمل أنباء غير سارة بالتأكيد.