الريادة المصرية بعد «كامب ديفيد»

TT

«كامب ديفيد التي ندعوها عملية سلام هي في الحقيقة عملية حرب» ـ نعوم تشومسكي الغضب والثورة اللذان برزا في الإعلام المصري إزاء محطة «الجزيرة» الفضائية له ما يبرره، فهي ليست المرة الأولى التي تستفز فيها المحطة نظاماً أو شعباً عربياً، فلقد سبق أن أثارت الكويت والأردن والسعودية وغيرها من بلدان عربية. وليست حرية التعبير هي مشكلة الأنظمة العربية مع «الجزيرة»، إنما تغذية التوتر في المنطقة هي المشكلة الرئيسية، وهذا التوتر ليس مقصوداً به الأنظمة فحسب، بل الشعوب العربية كذلك، وهذه هي الطامة الكبرى، إذ لوحظ في فترات متفرقة أن المحطة تحرض أطرافاً عربية بشكل مسرحي ضد بلد أو شعب عربي آخر، وذكاء العاملين في هذه المحطة هو الذي يدفعهم لاستخدام حرية التعبير كأداة في تحقيق أغراضهم، ولعل الذي أثار المصريين عموماً في الآونة الأخيرة هو محاولة تهميش الدور الريادي لمصر في العالم العربي، فهذه قضية لا تستفز النظام المصري فحسب، بل تستفز معظم المصريين، وإذا كانت تلك المحطة حريصة على اكتساب صدقيتها عند المشاهد العربي فعليها أن تكشف بعض الحقائق المتعلقة بنشأتها وتمويلها وإدارتها وخططها.

مع التأكيد على ريادة مصر في المجال الثقافي والفكري إلا أن ما يجب الإشارة إليه أن ريادتها السياسية قد تأثرت كثيراً بعد توقيع معاهدة «كامب ديفيد»، فلقد كان الهدف الرئيسي من هذه المعاهدة إزاحة مصر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقد كانت مصر تشكل القوة العسكرية العربية الرئيسية في محور الصراع، وإزاحتها تعني خلو الساحة من قوة رادعة تحسب لها إسرائيل حساباً كبيراً. لقد كان ثمن انسحاب إسرائيل من صحراء سيناء هو ابتعاد مصر (ما يفوق العقد من الزمان) عن بقية العرب، وانتقال الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، وتفريغ خط المواجهة من السيادة العسكرية المصرية وإحلال قوات دولية فيه. ولقد منحت هذه المعاهدة اسرائيل الجرأة في حركة الاستيلاء وضم الأراضي العربية المحتلة، كما أدى ذلك إلى تفاقم عمليات الاستيطان وبناء المستوطنات، وازدادت عمليات القمع بشكل مطرد صاحبتها ردة فعل فلسطينية شعبية اشتهرت بالانتفاضة، وتكرر الهجوم والقصف الوحشي للبنان حتى انتهى بالغزو، واشتد الخناق على منظمة التحرير حتى أصبحت بين خياري الفناء أو الاستسلام، كل ذلك تم بعد معاهدة «كامب ديفيد». لقد كان لازاحة مصر عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي آثار سلبية ما زال يئن منها العالم العربي.

غير أن أخطر النتائج السلبية التي أفرزتها «كامب ديفيد» هي استبدال المرجعية في حسم المفاوضات، فبعد أن كانت الشرعية الدولية هي الأساس الذي يرجع إليه المتفاوضون لحسم الخلافات، أصبح بعد «كامب ديفيد» توازن القوة العسكرية في المنطقة هو المرجعية التي تستند إليها إسرائيل لفرض شروطها، ولولا إزاحة مصر من هذا الصراع واختلال ميزان القوى لظلت الشرعية الدولية مرجعية لهذا الصراع. ورغم أن القيادة الحالية في مصر تسعى جاهدة لاستعادة ريادتها السياسية في العالم العربي، وتعمل لتفادي الخسائر التي سببتها «كامب ديفيد» للعرب، إلا أن ذلك كله مرهون بالثقل العسكري لمصر ومدى القدرة على إعادة استخدامه في التفاوض مع العدو.