الشركات العائلية.. أين الخلل؟

TT

لا أدري لماذا يبدي العديد من الاخوة استغرابهم من اصراري على دعوة الشركات العائلية في المنطقة الى تغيير اوضاعها بالاندماج أو التحول الى شركات مساهمة في الوقت المناسب من حياة هذه الشركات العائلية، واذا كنت قد أبديت موقفاً واضحاً حيال هذا الموضوع في ندوات ومناسبات اخرى عديدة شاركت فيها، إلا ان هذا الموضوع يظل بالنسبة لي متصدراً مساحة كبيرة من اهتماماتي، حيث ادرك ان التحولات الاقتصادية العالمية الحالية والاتجاه نحو العولمة وما تفرزه من توجهات اقتصادية تفرض ان ننظر بواقعية للأوضاع المستقبلية لشركاتنا العائلية التي تشير التقديرات الى انها تتحكم في 98% من النشاط التجاري في المنطقة، ولأنني لا أريد أن اكرر ما طرحته سابقاً في شرح الدواعي والمبررات التي تستوجب تعديل وتطوير مسار هذه الشركات، والخيارات المطروحة أمامها لكي نضمن استمراريتها وتأثيرها في عجلة التنمية الاقتصادية.

ويمكن القول ان كل شركة عائلية لها تقاليدها وظروفها وطريقة عملها الخاصة، كما أنه من الثابت أن لكل شركة من هذه الشركات دورة حياة. بعضها قد يصل الى القمة، والوصول الى القمة ليس أمراً يسيرا، والمحافظة على الاستمرار والبقاء في القمة هو أصعب ما يكون في هذه المرحلة خصوصا، لذا نجد بعض هذه الشركات بدأت تسير باتجاه يقود الى السقوط من القمة، بل الانهيار بعد اجيال محدودة من الملاك، بسبب منازعات بين هؤلاء الملاك، وبين أولاد العم أو غيرهم من الأجيال الجديدة من أصحاب الشركات المعنية، أو بسبب المحاباة أو عدم الاتفاق على مسائل الخلافة أو الارث، أو عدم وجود الاداريين الاكفاء، أو بسبب اختلاف على مستقبل الشركة وأسلوب ادارتها وطريقة عملها، أو بسبب دوافع شخصية أو نوازع تحكمها الطبيعة البشرية، أو لغير ذلك من الأسباب مما يستدعي التفكير مليا في الأوضاع المستقبلية لهذه الشركات، حيث تفرض المصلحة والاتجاهات الاقتصادية الراهنة ضخ دماء جديدة في شركاتنا العائلية وتغيير نمط هذه الشركات وتعزيز اوضاعها، وذلك لن يتأتى الا بالاندماج مع شركة اخرى لها فلسفة العمل نفسها (مثل شركة كارغل الأميركية) أو تحويل الشركة العائلية الى شركة مساهمة بطرح جزء من أسهمها للاكتتاب (مثل شركتي الزامل، والفتيحي) وهذا يضمن بأن تدار الشركات المعنية من قبل ادارة محترفة، بعيدا عن العواطف والمشاعر العائلية، والاستناد إلى امكانيات اكبر، وهذا لا يعني ان النجاح سيكون مضمونا 100% بالنسبة الى الشركة بعد الاندماج أو التحول الى شركة مساهمة، ولكن العمل الجاد وكفاءة الادارة، والظروف الاقتصادية الملائمة هي من الأسس المهمة التي تدفع الشركة الجديدة الى النجاح. بل هي العنصر الحاسم في عملية النجاح أو الاخفاق.

ان هناك ما حفزني لكي اتناول مجددا موضوع الشركات العائلية، ومحور هذا الحافز هو سؤال طرحه علي أحد الإخوة: ماذا يعني تعثر بعض الشركات العائلية التي تحولت الى شركات مساهمة؟! مبعث هذا السؤال، ذلك المقال الذي أطلعني عليه أحد الإخوة للكاتب المعروف عبد الله باجبير الذي كتب في جريدة «الشرق الأوسط» اخيراً عددا من المقالات عن الشركات المساهمة، وتوقف في احداها عند تجربة مؤسسة الفتيحي، وكيف تضاءلت مبيعات أرباح هذه المؤسسة عندما تحولت من مؤسسة فردية أو عائلية عريقة وناجحة الى شركة مساهمة.

الأخ الذي حمل اليَّ المقال، ورجل أعمال آخر، قالا لي ان الوضع الذي آلت اليه مؤسسة الفتيحي، يمثل انتكاسة قد تثير وتقضي على أي اتجاه أو خطط لتحويل بعض الشركات العائلية في المنطقة الى شركات مساهمة.

إنني أختلف، وأتفق في آن واحد، اختلف مع الأخوين، ومع كل من يرى أن تجربة تحويل مؤسسة الفتيحي قد تقضي أو تؤثر سلبا في أي توجهات مستقبلية تدفع نحو تحويل بعض الشركات العائلية الى شركات مساهمة، وعلينا أن نلتزم بالموضوعية بدراسة الأسباب التي أدت بمؤسسة الفتيحي الى انخفاض مبيعاتها وكذلك انخفاض أرباحها.

واذا قمنا فعلا بدراسة موضوعية، وأمعنا النظر في الاسباب التي ادت الى تلك النتائج، فإننا حتما سنتوصل الى قناعة بأن ما جرى بالنسبة الى المؤسسة المذكورة ليس بالضرورة أن ينطبق على المؤسسات الاخرى التي تعتزم التحول الى شركة مساهمة عامة. هذا أمر مؤكد، حيث يجب ألا ننسى أن هناك العديد من الاعتبارات التي يمكن ان نحدد في ضوئها جوانب القوة، وجوانب الضعف في أي من الشركات المعنية، وبناء على مدى التزام هذه الشركات بالقواعد المؤسسية، وكفاءة الإدارة، وقدرتها على التجديد والابتكار والتخطيط للمستقبل، والانتاجية العالية، وغيرها من المقومات التي لا يمكن تجاهلها، يمكن توفير معايير النجاح لهذه الشركات. وبالنسبة الى مؤسسة الفتيحي التي كانت رائدة وموثوقة في عالم المجوهرات، وكان لها تاريخ معروف في صناعة المجوهرات، ففي رأيي الخاص أن الاشكالية التي أثرت على مسار هذه المؤسسة قد تمثلت في تغيير أو تنويع نشاط المؤسسة، وعدم التركيز على النشاط التجاري الذي تخصصت فيه مؤسسة الفتيحي وهو نشاط المجوهرات والتحف الرائعة التي كانت تباع بأسعار معقولة، وأنا على ثقة بأن الشيخ أحمد الفتيحي لن تفوته اسباب ضعف ارباح مؤسسته، وانه يعمل جادا للتغلب عليها كما تغلب على العثرات التي واجهها في الماضي.

نقطة اخرى اعتقد انه من المهم ان تؤخذ بعين الاعتبار، هي أن الشركات العائلية عندما تتحول الى شركات مساهمة قد تتعثر خاصة في السنوات الأولى من التحول، فعملية التحول بما يرافقها من تغيير وتعديل وتطوير في مختلف مجالات ومستويات وخطط العمل بهذه الشركات، ليست أمرا هينا، ولكن تبقى امكانيات من يدير هذه المؤسسات، من مجالس ادارة وادارات تنفيذية هي المحك للتغلب على أي عثرات. وبالرغم من كل شيء، أقول ان عملية التحول تبقى هي الطريق الأنسب والصحيح للتكيف مع التحولات والمخاطر التي تواجه شركاتنا العائلية. ومن هذا المنطلق أختلف مع المتشائمين الذين ينظرون الى تجربة مؤسسة الفتيحي، نظرة غير واقعية ليحكموا بالتالي بشكل عام على فشل تجربة تحويل الشركات العائلية الى شركات مساهمة.

أما الجانب الثاني، فأنا أتفق مع ما ذكره الكاتب عبد الله باجبير في ما يتعلق بتعثر تلك المؤسسة في هذه المرحلة، ولكن ارجو ألا ينسى كاتبنا العزيز أن الشيخ أحمد الفتيحي هو من الرواد الأوائل، ان لم يكن الأول، ممن اخذوا زمام المبادرة في المملكة العربية السعودية بتحويل شركاتهم العائلية الى شركات مساهمة، ولا شك اننا جميعا سوف نستفيد من هذه التجربة، ومن عوامل نجاحها أو تعثرها، وأعتقد اننا يجب ان نساند هذه التجربة لندفع بها الى ما يضمن على الأقل أن تكون عوامل النجاح اكثر من عوامل الاخفاق والتعثر. وقد عايشت شخصيا الشيخ أحمد الفتيحي في اجتهاداته لتحويل شركته الى شركة مساهمة، وكانت هناك نقاط التقاء كثيرة في افكارنا تجاه هذه المسألة، وعندما شاركنا معا في القاء بعض المحاضرات خلال ندوات عديدة محورها الشركات العائلية في المنطقة، توصلنا الى قناعة مشتركة بأن المرحلة الحالية تفرض التغيير والتطوير والتحويل وأنه ليس أمام شركاتنا العائلية لاستمراريتها الا مواجهة ما يفرضه الواقع والمعطيات الاقتصادية بالتحول الى شركات مساهمة في الوقت المناسب، ومن المؤكد ان الشركات العائلية ذات القيادة الواعية التي تسلم زمام امور شركاتها الى الجيل الصاعد القادر على القيادة والادارة من ابنائها وتراقبهم، تكون اكثر قابلية للاستجابة والتكيف مع الظروف المتغيرة ومواجهة التحديات المستجدة، ولكن قد يستمر ذلك لفترة جيل أو جيلين، وبعدها ستطل المشاكل العائلية نفسها برأسها من جديد، لنفس الاسباب التي أشرت اليها، أو لأسباب اخرى مستجدة، وآنذاك سيفرض التغيير نفسه باتجاه التحويل وتعديل هيكلية الشركات العائلية بصورة ملحة.

واذا كنا ما زلنا نجد مقاومة أو عدم تقبل البعض من اصحاب الشركات العائلية بالمنطقة أو المحسوبين على هذه الشركات من أي تغيير مستقبلي في هيكلية شركاتهم، تخوفاً من عواقب والتزامات هذا التحول الذي قد يعتبر من منظور هؤلاء مغامرة تنتهي بأن تخرج ملكية هذه الشركات واداراتها من ايديهم كمؤسسين، وتؤدي الى انكشاف اسرارهم واثارة بعض المخاوف من فقدان وجاهة أو مكانة اجتماعية، أو فقدان بعض الامتيازات والحوافز، أو غير ذلك من الأسباب التي وقفنا عندها كثيراً في العديد من المناسبات، وإنني أتفهم تماما دواعي هذه المخاوف والهواجس، خاصة أن الشركات العائلية تمثل للكثيرين امتداداً لأعراف تجارية عميقة الجذور، وتراثاً غنياً من التقاليد والقيم الاجتماعية والاقتصادية في آن واحد، ولكننا بالتالي نجد انفسنا امام معطيات جديدة تجعل الأسلوب العائلي في ادارة الشركات يفتقر الى الصلاحية المطلوبة. فمواجهة العواطف العائلية والمنافسة الشرسة القادمة للمنطقة في ظل التحولات الجذرية في الاقتصاد العالمي، وتعميق المنافسة الالكترونية التي تخترق الحدود الدولية والاتفاقيات والاعراف التجارية السائدة، كل هذه الأمور تفرض واقعاً جديداً يجعل من شركاتنا العائلية بوضعها الحالي معرضة للانهيار.

ان هذه التطورات تستدعي ان نتمعن فيها جيدا حتى نبلور الرؤى الواضحة التي تشجع على دفع الشركات العائلية الى شركات مساهمة كخيار لا بد منه للاستمرارية وتوسعة نشاطاتها، بل ليس هناك بديل عن هذا الخيار، اللهم الا الاندماج واقامة تحالفات استراتيجية بالنسبة الى بعض الشركات العائلية القائمة وليس كلها، لأن هناك بعض الشركات ليس امامها الا الإسراع في تطوير أوضاعها وزيادة قدراتها على البقاء والانتاج والمنافسة، أي ليس امام هذه الشركات سوى التحول الى شركات مساهمة والا فانها ستذوب في تيار العولمة وتحدياتها..!

* رجل أعمال سعودي