بعد تزييف السلام.. أصبحت الانتفاضة هي الحل

TT

هل تنجح محاولات وقف الانتفاضة؟

يعلق كثيرون آمالهم في ذلك على اتفاق عرفات وبيريز، والاجتماعات المرتقبة التي دعا اليها الرئيس الاميركي في واشنطون خلال هذا الأسبوع. لكن أزعم ان الأمر أصبح أعقد وأعمق من ان يعالج باتفاق يوقع هنا أو هناك، حتى اذا كان الطرف الفلسطيني المشترك في التوقيع هو الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي أعلن انه سوف يستجيب لدعوة الرئيس الاميركي للاجتماع به في واشنطون.

لقد تغيرت الخريطة الفلسطينية والعربية على نحو يجعل من العسير للغاية وقف الانتفاضة بقرار فوقي، طالما ان هذا القرار لم يعالج اسباب الانتفاضة، وانما انصب على تجلياتها فقط، ولا أحسب ان الاميركيين ومعهم الاسرائيليون مستعدون لفتح ملف الأسباب، لأنها تتعلق بمبدأ الاحتلال وجوهر عملية السلام.

لا أحد من هؤلاء يريد أن يضع يده على أصل الداء وسبب البلاء، وانما العكس هو الحاصل، حيث أدرك المجتمع الفلسطيني والعربي بعامة من خبرة السنوات السبع التي مرت منذ توقيع اتفاق أوسلو، ان ما سمي بعملية السلام ليس الا حيلة لاستمرار الاحتلال تحت اسم آخر، مع تقنية واضفاء الشرعية عليه.

ولا أعرف كيف تسنى لهؤلاء ان يتصوروا ان حيلة من ذلك القبيل يمكن ان تنطلي على الفلسطينيين والعرب طيلة الوقت، وانها حين تفرض في ظل ظروف معينة، فتترجم الى اتفاقيات وملاحق وغير ذلك، فإن الفلسطينيين يمكن ان يبتلعوا الطعم، وان يقنعوا بالعيش صاغرين في ضواحي المستوطنات وعلى اطراف الخرافة كما يقول محمود درويش، وأغرب من ذلك ان يطالب الاسرائيليون الطرف الفلسطيني بالاعلان عن نهاية الصراع على ذلك المشهد المذل والمهين.

لقد ردد بعض القادة الاسرائيليين يوما ما مقولة ان العرب لا يقرأون، وبصرف النظر عن رأينا في تلك المقولة، الا ان التجربة اثبتت ان الاسرائيليين والاميركيين هم الأكثر أمية من غيرهم في ادراكهم حقيقة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وربما كانت هذه الأمية هي التفسير الوحيد لتوهم الاسرائيليين والاميركيين ان هذا الذي يفرضونه أو ينسجونه باسم السلام، يمكن ان يمر وينطلي على العرب اجمعين.

في مصر يتندرون على الصعيدي الذي قدم الى القاهرة لأول مرة، فتلقفه نفر من النصابين وباعوا له تراما كان يمر في الشارع (الصعايدة لهم ردود قوية على المزحة)، ويبدو أن شيئا من ذلك القبيل حدث في عملية السلام، التي ادرك الفلسطينيون انها نوع من بيع الوهم والاستغفال، لا يختلف كثيرا عن عملية بيع الترام! هذا الادراك حينما شاع وتراكمت معطياته بمضي الوقت، فإنه عبر عن نفسه بمشهد الانفجار الماثل امامنا الآن، وغني عن البيان ان زيارة شارون لحرم المسجد الأقصى لم تكن سبب الانفجار كما يروج البعض، ولكنها كانت عود الثقاب الذي ألقي في الساحة الغاضبة أصلا، فاشتعل فيها الحريق.

وينبغي الا نخطئ في قراءة المشهد الراهن، فانتفاضة الألفين هي ضد التسوية وضد عملية السلام بالدرجة الأولى التي كرست مذلة الاحتلال ولم ترفعها، وعملية السلام هذه هي «الجديد» الذي طرأ على القضية الفلسطينية في عقد التسعينيات، ولم تكن قائمة في انتفاضة الثمانينيات التي كانت ضد الاحتلال فحسب.

ولأن عملية السلام أصبحت حقيقة واقعة، فإن استمرارها على النحو الذي بدأت به ومضت عليه من شأنه ان يبقي على مصدر الغضب، ومن ثم يبقي على احتمالات اشعال الحريق.

لقد فقدت الجماهير الفلسطينية ثقتها في المسيرة التي انفصلت في الواقع العملي عن موضوعة السلام، حتى بدا وكأن المسيرة شيء والسلام شيء آخر، واذا كانت المسيرة مجرد طريق بينما السلام هدف، قل انه بناية في نهاية الطريق، فإن الاكتفاء بالتحرك على الطريق يلغي امكانية الوصول الى البناية الهدف، ومن ثم فإنه يفرغ السلام من مضمونه الحقيقي، وهذا ما حدث على أرض الواقع.

والأمر كذلك، فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان أهم متغير حاصل على الأرض الفلسطينية الآن هو انهيار فكرة الحل السلمي المطروح للصراع، الأمر الذي استصحب انكشافا فضح حقيقة الدور الاميركي، الذي لم يعد محل احترام أو ثقة من أحد. هناك متغيرات أخرى بينها سقوط اسطورة التطبيع مع اسرائيل، وسقوط الجماعات التي حاولت تسويق السلام المطروح في عالمنا العربي (جماعة كوبنهاجن مثلا) ولم يعد مقبولا الكلام عن دور لجماعات السلام في اسرائيل، ناهيك من الكلام عن تمايز مزعوم لحزب العمل عن تكتل الليكود.

وبعدما ايدت اغلبية الشعب الاسرائيلي (80%) قرارات باراك بقمع الانتفاضة بقوة السلاح، فإن ذلك جاء دليلا آخر على أن اغلبية الشعب الاسرائيلي غير مستعدة بعد لسلام حقيقي وعادل مع الشعب الفلسطيني، يقوم على الاحترام والاعتراف المتبادل، وانما المطروح اسرائيليا خصوصا بعد تنامي دور الاحزاب الدينية المتطرفة، هو «سلام اذعان» يعطي الاسرائيليين كل ما يريدون، ويحرم الفلسطينيين من ابسط حقوقهم.

ازاء انكشاف زيف كل ما هو مطروح من اتفاقيات ودعاوى ولافتات، أصبح من العسير للغاية العودة الى الوضع السابق بكل ما فيه من بطلان، لذلك فلا غرابة في أن ينعقد الاجماع الشعبي حول رفض اتفاق وقف الانتفاضة الذي قيل انه تم التوصل اليه في اجتماع الرئيس عرفات مع شمعون بيريز، وقد اعلنت الفصائل الوطنية والاسلامية ذلك الرفض في بيان علني. وهذا الاجماع ـ بالمناسبة ـ لم يكن متوافرا في انتفاضة 87، حيث كانت القوى السياسية تعمل منفصلة عن بعضها، لكنها في الانتفاضة الراهنة وتحت وطأة الشعور الجماهيري العارم بالغضب التقت في ما بينها وأصبحت بيانات الانتفاضة تصدر باسم مختلف الفصائل الاساسية في الساحة الوطنية الفلسطينية.

ورغم ان الرئيس عرفات يفترض انه قائد تنظيم فتح، وبالتالي فإن التنظيم يفترض فيه ان يتأثر أو يلتزم بموقف زعيمه، الا انه من الواضح ان قواعد فتح، وهي جزء لا يتجزأ من الشارع الفلسطيني، لا تزال مع استمرار انتفاضته، ولذلك كان لافتا للنظر ما قاله في دمشق سليم الزعنون، احد قادة فتح ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني، من ان اتفاق وقف الانتفاضة لا ينبغي ان يتم دون أخذ رأي قادتها الميدانيين.

نعم، هناك اصوات في السلطة الفلسطينية تحاول الافادة من الانتفاضة في تحسين الموقف التفاوضي لا أكثر، وهو ما عبرت عنه التصريحات الأخيرة لنبيل عمرو، وزير الشؤون البرلمانية، والتي قال فيها ان الانتفاضة أدت دورها في ايصال صوت فلسطين للعالم الخارجي، الأمر الذي يعني ان عليها الآن ـ بعدما أدت المهمة ـ ان تهدأ وتستكين، غير ان تلك الاصوات لا تعبر عن نبض الشارع الفلسطيني، الذي فقد الثقة في كل ما هو مطروح، وزادته الممارسات يقينا بان اسرائىل لم تتزحزح بعد كل ما جرى قيد انملة عن موقفها من نفي الشعب الفلسطيني وقمعه، بل زادته يقينا بأن الاطماع الاسرائيلية لا حدود لها. وما المطلب الاسرائيلي بفرض السيادة على المسجد الأقصى وحرمه الشريف إلا مثل على ذلك، حيث لم يكن يخطر على بال أحد في الماضي ان تذهب اسرائيل في تقولها وبمنجهيتها الى ذلك المدى.

لم يعد ممكنا الآن تسويق معزوفة السلام الذي افرزته اتفاقيات أوسلو وما بعدها. في الوقت ذاته فإن اسرائيل بكل ما تملكه من تفوق في السلاح لم تعد تشكل رادعا للفلسطينيين، خصوصا بعد الانسحاب الاسرائيلي المهين من جنوب لبنان على يد قوات حزب الله. لذلك، لم تعد اسرائيل ذلك الكيان المخيف أو القوة التي لا تقهر، ولا يُنسى في هذا الصدد تلك اللقطة التي سجلها التليفزيون، وظهر فيها جنديان اسرائيليان مدججين بالسلاح على الكتف وحول الخصر، حين امسكا بشاب فلسطيني اعزل، ما ان اشهر في وجهيهما «مطواة» صغيرة استلها من جيبه حتى تركاه وتراجعا مذعورين.

بعد انكشاف حقيقة التسوية المعروضة، أصبح بوسع الواحد منا ان يقول بثقة ان السلام لن تقوم له قائمة في فلسطين ولا في المنطقة طالما بقي الاحتلال مستمرا، واذا ما عَنَّ لأحد ان يعيد الساعة الى الوراء ويعرض على الملأ معزوفة السلام القديمة، فإنه يبعث بذلك برسالة ضمنية تقول بالفم الملآن انه ليس امام الجميع سوى تلك البضاعة الفاسدة، ومن ثم فإن المضي على طريق التسوية السلمية هو من قبيل تضييع الوقت، الأمر الذي يفيد منه الاسرائيليون وحدهم في تعزيز مواقعهم والتمكين لمشروعاتهم التوسعية والاستيطانية، وتلك رسالة لا تدع مجالا للتفكير في غير الانتفاضة، باعتبارها الخيار الوحيد الذي لا يزال متاحا، فضلا عن انها اللغة الوحيدة التي تفهمها اسرائيل. هل عندكم خيار شريف آخر؟!