التماسك أمام دقات طبول الحرب

TT

الحديث عن مؤامرة.. سقيم وقديم ويتكرر ليفضح عجز الأمة وحكّامها عن فهم ما يجري في عالم متغيّر ومتطوّر يرفض التقوقع والجمود والبكاء على أطلال الماضي وأمجاده والاكتفاء برؤية العجز العربي والإسلامي وعدم القدرة على بناء الحاضر الكريم وتأمين المستقبل الواعد.

والحديث عن عملاء وخونة أو جبناء وأنانيين من أهل السياسة ورجال الحكم والمؤيدين والمعارضين، هو أيضاً حديث مثل سابقه، مرفوض لأنه متكرر وممجوج. وأما الدعوة لإقامة حلقات البكاء لمجرد البكاء على حليب مسكوب (مطعفر) في مقر الجامعة العربية وغيرها من محافل «الكلاملوجيا» لتبرير النوم والعجز في انتظار لطمة أو ركلة مفاجئة أو ضربة طال الحديث عنها ليصدر المجتمعون بيان شجب وإدانة، إنما يجسد حالة إدمان عجز وفشل وغياب للوعي سنحاسب عليه جميعاً أمام الله أولاً وأخيراً. فالأمة تدرك أن الولاية للحاكم مسؤولية عظيمة وتكليف قبل أن تكون تشريفا. ان السلطة ليست ترفاً أو مصدر كبرياء وتعال، تبرر اصرار أصحاب السلطة على مواصلة تجاهل قواعدها وأصولها والإخلال بشروطها التعاقدية المنصوص عليها شرعاً وعرفاً بين الحاكم والمحكوم.

فالحاكم الكاذب الفاسد مكروه عند الله وخلقه، فهو غير مؤتمن على شعب ووطن، ولا بد من إصلاح وتقويم إعوجاجه بواسطة الأمة بالنصيحة والرأي أولا، وبالعصي والعصيان المدني والمواجهة بالرفض وعدم الطاعة فيما لو تعذّر وصعب إصلاحه بعد أن تعاظم طغيانه وجبروته. فالقضية إذن تعني للعقلاء إصلاح سلطة أو نظام حكم طغى واستبد، والشعب في بلد المعاناة من حكامه هو المعني بالقضاء على مصدر الشر فوق أرضه، وليس هناك ما يبرر له للخلاص اللجوء للاصطفاف وراء دعوة غزو خارجي أمريكي ـ بريطاني، سوف يتسبّب في قتل وإبادة الأبرياء للتخلص من حاكم في بغداد مثلاً طال أمد حكمه وخطره. بينما يُطالَب حكام العرب بالسكوت والخضوع أمام جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي فوق أرض فلسطين.

فالوجه الآخر لنكبة العرب والمسلمين والخطر المقيم الجاثم فوق صدورهم، يتجسد في العدو الذي يحتل أرضاً إسلامية مقدسة ويستحق أن تتضافر ضده كل جيوش العرب والمسلمين لإخراجه من أرض يحتلها عنوة وينكل بأهلها.

ولمواجهة ما يجري في فلسطين وما يدبر في السر والعلن للعراق وبلاد أخرى عربية وإسلامية، لا بد من خطوات إصلاح شامل للأوضاع الداخلية عامة على قاعدة العدل للجميع وعلى حق المشاركة بالقول والعمل في جو خال من القهر يفتح الأبواب المغلقة والمواربة أمام الحريات المدنية كما يقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي دعا ونص عليها الإسلام الحنيف في محكم الكتاب ويشمل في إطاره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكافة التجارب الديمقراطية المعاصرة. ولذا فإن تماسك الجبهة الداخلية أمام الأخطار المحدقة هو ملاذ الأمة وحكامها للخروج من دائرة الخطر وبلوغ آخر النفق إيذاناً بالانطلاق بلا قيود.

وعودة لموضوع اللعبة السياسية الدولية التي نشهدها ونكتوي بنارها اليوم، أقول لا بد لنا أن نعيد قراءة شروط هذه اللعبة على أمل تحسين أدائنا حتى لا نخسر كل رأس مالنا بعد أن فقدنا كل الأرباح من تجارة لا تبور (دخل النفط للإنفاق المتدني على الوطن والباهظ على قوات أمريكية تربض في قطر والكويت وتركيا والبحرين منذ غزو العراق للكويت!). بينما يستمر تواكلنا وجهلنا وتجاهلنا لواقع جديد في عالم جديد تحكمه توازنات جديدة. وكذا اعتمادنا على الغير عند اتخاذ قرارات مصيرية في غاية الخطورة تعالج أوضاعاً سائدة في فلسطين والعراق وجنوب السودان.

فمتى نفهم بأن معسكر الأعداء من صهاينة وغلاة المسيحية، قد أعدوا العدة منذ وقت بعيد.. وجاءهم العذر المناسب وإن كان أقبح من ذنب في جريمة 11 سبتمبر 2001، التي تبناها غلاة طالبان والقاعدة، كما ورد على لسان رموزهم، دون أن توكل جموع المسلمين لهم القيام بفعل مخيف لا يبرره الدين والعقل. فاندفع على هداه في المقابل الغلاة الصهاينة والمسيحيون المتربصون الطامعون ومارسوا جرائم التنكيل بجموع من المسلمين داخل الولايات المتحدة وأوروبا.. ودفعوا بالأمور على طريق إعلان حروب إبادة ضد المسلمين الأبرياء في أفغانستان والشيشان بعد فلسطين وكشمير وجنوب الفلبين. وهكذا فالتطرف يميناً أو يساراً.. أسلمة أو مسيحية صهيونية، يشكل في النهاية محوراً ومصدراً للشر ضد البشرية.

واليوم يقرع طبول الحرب مجدداً أشرار واشنطن الذين تضمهم مكاتب ومراكز رسمية وشبه رسمية وتدور آلة إعلام جهنمية يملكها ويديرها رموز الحركة الصهيونية العالمية المتنقلة بين بازل ولندن وواشنطن لخلق أجواء تهيئ للحرب والعدوان والاحتواء، وتلتقي معها «فضائية الجزيرة» و«قدس عطوان».

لقد حدد معسكر الأعداء والخصوم أهدافه البعيدة والقريبة.. فلسطين وأفغانستان، فالعراق فجنوب السودان والصومال واليمن فلبنان فسوريا فإيران بعد الباكستان. وهي أهداف عربية إسلامية دون غيرها تسعى أمريكا وإسرائيل إلى تدمير مجتمعاتها ومقوماتها، أو على أفضل الاحتمالات خلخلتها لو بقي حال العرب والمسلمين حائراً متقاعساً وعاجزاً مستسلماً كما هو اليوم.

ولما كان الشيء بالشيء يذكر ـ فقد تابعنا ما نشرته «الواشنطن بوست» من باب الإثارة و«جرّ الشَّكَلْ» حين عرضت، منذ فترة وجيزة، تقريراً للجنة استشارية غير رسمية تتبع وزارة الدفاع الأمريكية. التقرير يندد بالسياسة السعودية ويشهّر بمواقفها ويصفها بأنها عدو أمريكا. وجاءت القراءة السعودية لهذا الاستفزاز صحيحة وحكيمة وفي غاية التوفيق. فقد ارتكز الرد السعودي الرسمي والشعبي على تجاهل ما جاء في ذلك التقرير المغرض، مكتفياً بتأكيد الموقف السعودي الرسمي المعلن من القضية المركزية بـ: أولاً إحلال سلام الشرق الأوسط وفق مشروع الأمير عبد الله كمشروع أجمع عليه العرب والذي ينص على اعتراف كامل لشعب فلسطين بدولة مستقلة ذات سيادة مقابل سلام شامل واعتراف بإسرائيل. وأكد الرد السعودي ثانياً على معارضة سعودية وعربية لأي ضربة عسكرية توجه ضد العراق.. هكذا جاء الرد السعودي على افتراءات اللوبي الأمريكي ـ الإسرائيلي المعادي، رداً مباشراً وواضحاً وقوياً رادعاً.

وفي أعقاب الهدوء والثبات في الموقف السعودي، تراجع البيت الأبيض والإدارة الأمريكية، وتنصل أهل القرار في الولايات المتحدة مما صدر عن اللجنة الاستشارية غير الرسمية بوزارة الدفاع واعتبروه تقريراً غير ملزم للوزارة والإدارة. وأعلنوا أيضاً أن أفرادا ملحقين بمهام غير رسمية أصدروا تلك الأفكار غير المعبّرة عن الإدارة.. وذهبت الإدارة الأمريكية إلى أبعد من هذا التنصل العلني من تقرير عملاء اللوبي الإسرائيلي.. فأشاد الناطقون الرسميون بالعلاقات الأمريكية ـ السعودية الراسخة والقوية وردوا بذلك كيد طابور إسرائيل إلى نحورهم.

وهكذا يتضح لنا أنه حين يتقن العرب أصول وشروط اللعبة السياسية الدولية، إنما يتّقون وأهلوهم، شر المتربّصين والحاقدين والطامعين والمتطاولين.

* رئيس خارجية اليمن الأسبق