الشرعية الدولية والشرعية الأمريكية

TT

عندما يتحدث رئيس اقوى دولة في العالم، الكل ينصت لما يقوله لما قد يكون لقوله من تأثير على العالم، لقد اصبحت الولايات المتحدة القوة المسيطرة المتفردة بالعالم، حيث نشرت قواتها واساطيلها واقمارها الصناعية الاستطلاعية حول العالم وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ومن هنا فحديث رئيسها له وزن كبير بين حكومات وشعوب العالم، ولكن ذلك لا يعني قبول العالم بشرعية قيادة هذه القوة العظمى اذا استندت الى شرعية القوة وحدها، بل لا بد لها من ان تستند الى الشرعية الدولية التي تم تطويرها وما اشتملت عليه من مواثيق ومعاهدات تم الاتفاق عليها بين دول العالم على مر الزمن، وتمثل منظومة الامم المتحدة بميثاقها ومجلس امنها ومحكمة العدل الدولية ومحكمة جرائم الحرب والاتفاقيات الاخرى قلب وروح الشرعية الدولية.

غير انه عندما يقول الرئيس جورج بوش: ان من اهداف دولتنا اسقاط نظام الحكم في البلد الفلاني، فإن السؤال الذي يتبادر للذهن هو: على اي اساس قانوني يستند في مقولته هذه؟ هل القانون الدولي يعطي رئيس دولة ما الحق في ان يطيح بنظام الحكم في دولة اخرى؟ الدارس للقانون الدولي يعرف ان لا مشروعية من هذا القبيل معطاة لدولة او حتى للأمم المتحدة في تغيير نظام الحكم في اي دولة من الدول الاعضاء في المنظمة الدولية، مما يعني ان امرا مثل هذا هو خارج القانون الدولي ومما يزيد في الطين بلة، هو ان هذا الرئيس يتباهى بأن بلده يحترم القانون والمواثيق الدولية، كيف لرئيس دولة عظمى ان يخرج على القانون الدولي ويعطي لنفسه الحق في انه وبلده فوق القانون؟ الا يعني ذلك انه وبلده خارجان على القانون؟ مثله في ذلك مثل صدام حسين عندما غزا الكويت متجاهلا بذلك ميثاق الامم المتحدة والذي لا يجيز الاعتداء على دولة عضو في المنظمة الدولية، كما ان القوانين الامريكية لا تجيز اصدار حكم قضائي والشروع في تنفيذه بدون التحاكم امام القضاء. اذاً لأي شرعية استند بوش في قراره هذا؟ ان حكومة الولايات المتحدة الامريكية عازمة على اسقاط النظام العراقي الحالي، وعلى الرغم مما لهذا النظام من مثالب وما عليه من ملاحظات وما جره على المنطقة من مصائب بدخوله حربين استنزفتا موارد الدول العربية والاسلامية، الا ان مجرد التهديد باسقاط نظام حكم في دولة عضو في الامم المتحدة معترف بسيادتها تحت الشرعية الدولية هو امر في غاية الخطورة، اذ لا بد للمجتمع الدولي ان يرفض مثل هذا السلوك من اي دولة كانت وحتى لو كانت الدولة العظمى في العالم. لا شك ان بوش استند الى شرعية القوة باعتبار دولته اقوى دولة في العالم، وهو اسلوب لا بد من رفضه من قبل بناة النظام القانوني الدولي ومحبي الامن والسلام في العالم فقد ولى هذا الاسلوب مع عصور الاستعمار واستبداد الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة.

لا بد للقارئ الكريم ان يتساءل عن هذا التطور الخطير في العلاقات الدولية الحديثة والذي لا بد من معالجته من قبل قوى الخير في العالم. فبقدر رفض المجتمع الدولي لجريمة 11 سبتمبر مهما كان مصدرها ودوافعها، اذ هي خروج على القانون الدولي، لا بد من رفض التدخل في الشؤون الداخلية وتغيير حكومات الدول بالقوة. لقد اسقطت حكومة طالبان بالقوة ودون اعتبارات دقيقة لمتطلبات الشرعية الدولية، وانا هنا لا ادافع عن تلك الحكومة التي جرت الشعب الافغاني الى حالة من التخلف، ولكن الامر يتعلق بسيادة القانون الدولي.

لقد اجتهد محبو الامن والسلام في العالم لبناء نظام دولي قانوني يحمي الشعوب المستضعفة من ظلم القوى المعتدية، هذا النظام الدولي المكون من ميثاق الامم المتحدة ومجلس الامن والمواثيق والمعاهدات الاخرى مثل ميثاق حقوق الانسان، وكل الجهود البشرية الاخرى خلال عقود من الزمن، لقد بذلت محاولات جادة في بناء مجتمع دولي يسوده القانون، وما تم تحقيقه وان كان قاصرا لسيطرة خمس دول على مجلس الامن من خلال حق النقض، الا ان هذا النظام الشرعي الدولي افضل مما كان عليه الحال في الماضي، وهذا النظام الآن مهدد من قبل دولة فقدت قيادتها الرشد، في التعامل مع الاحداث العالمية، نتيجة لتأثرها بجراح 11 سبتمبر وانتهجت سياسة جديدة قوامها الظن والشك والريبة لما يمكن ان تضمره لها دولة او دول حول العالم، وانتهزت العناصر الصهيونية المضللة هذا الجو المشحون بالغضب لتنفيذ مخططاتها الشريرة والدفع بهذه السياسة الجائرة وغير المسؤولة، لذا فهي سوف تضرب قبل ان تضرب كما تقول، وهذا سوف يؤدي الى نقل البشرية الى حافة الهاوية، وفي هذا الاطار لا يهتم بوش ومساعدوه لما تعنيه الحروب بالنسبة للدول الاخرى والشعوب الاخرى ما دامت هذه الحروب خارج الاراضي الامريكية وعلى اراضي الغير. ولكن هيهات ان تكون مثل هذه السياسة هي السياسة التي تعطي امريكا الامن، فأمن امريكا وسلامتها يكمنان في تبنيها لسياسة العدل من خلال تطبيق الشرعية الدولية والالتزام بمبادئ العدل، فالظلم لا يجلب الا الدمار لمن يمارسه فهل يعي بوش ان قوة الولايات المتحدة وزيادة تلك القوة تكمن في ان تُرى على انها دولة تحترم الشرعية الدولية وتمارس العدل الحقيقي غير المزور.

نسمع الآن ونرى الاستعدادات للاطاحة بالحكومة العراقية، هذا التطور الخطير، باستخدام مبدأ القوة للتدخل في تغيير الانظمة الحاكمة او الحكومات في دول اخرى يمثل خروجا على الشرعية الدولية ولا بد من رفضه من المجتمع الدولي كافة، والمبررات التي تسوقها الادارة الامريكية هي مبررات غاية في السذاجة والتناقض، ومن التناقض الواضح في هذه السياسة الامريكية وعدم الانصاف نرى ان الحكومة الامريكية لا تحرك ساكنا، بل وتشجع الحكومة الفاشية العنصرية في اسرائيل على انتهاك مبادئ الشرعية الدولية بحق الشعب الفلسطيني المناضل. دعوى امريكا على العراق هي ان العراق قد يطور اسلحة دمار شامل او هناك شك في وجود مثل هذه الاسلحة، ولكن في حالة اسرائيل فان اسلحة الدمار الشامل متوفرة وبكميات يمكن ان تؤدي الى دمار شامل لمنطقة الشرق الاوسط بكاملها. اسرائيل تملك اسلحة دمار شامل وتهدد جيرانها، وترتكب يوميا جرائم ضد الانسانية مع شعب اعزل مناضل من اجل تقرير مصيره، ومع ذلك فلا نسمع من الادارة الامريكية انها سوف تطيح بحكومة ارييل شارون، لذلك لا يمكن لجورج بوش او لمساعديه ممن يشجعون الحكم الفاشي في اسرائيل امثال لبرمان وكسنجر وغيرهم من عتاة الصهاينة، ان يقولوا انهم عادلون ويتعاملون في ظل القانون الدولي والشرعية الدولية.

وعلى الرغم من نداءات رؤساء الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن مثل فرنسا وروسيا بان المرجعية هي لمجلس الامن، فيما يتعلق بالشأن العراقي، الا ان قوى الشر ـ وهذا ما يجب ان يطلق عليهم لا «الصقور» كما هو شائع ـ في الادارة الامريكية تبرر للرئيس القيام بعمل عسكري ضد العراق دون الرجوع لمجلس الامن. الولايات المتحدة الآن تتصرف وكأنها الحكومة العالمية غير العادلة، ومن دلالات عدم العدل التي تدفع به قوى الشر ممارساتها نحو القضية الفلسطينية، كما ان قولها بان مصالحها القومية فوق كل شيء يبدد العدل، فهي حكومة تحكمها المصالح، والسؤال الحرج هنا مصالح من هي التي يتحدثون عنها؟ مصالح الشعب الامريكي، ام مصالح فئة مسيطرة على شعب مضلل، وهنا يفقد العدل الذي هو اساس الشرعية الدولية.. والسؤال المطروح على قادة العالم هو: الى اي مدى سوف يظل العالم حبيس قرارات وسياسات حكومة ظالمة مستبدة بالعالم، لانها لا ترى الا مصالحها، ولا تحكم حسب الشرعية الدولية، ولا حتى الشرعية الامريكية ذاتها، انظروا ماذا فعلوا بأسرى افغانستان، اودعوهم في معسكرات خارج الحدود الاقليمية للدولة الامريكية، لكي لا ينطبق عليهم القانون الامريكي، عجبا كيف يمكن لهذه الدولة ان تدعي انها دولة تحترم القانون والعدل شرعيتها، هل يجوز لمثل هذه الدولة التي لم تقبل التوقيع على اتفاق محكمة جرائم الحرب، والتي هي جزء من المنظومة العامة للقانون الدولي، ان تنفرد بالعالم؟

هناك حاجة الى ان يثور العالم اجمع شرقه وغربه في وجه هذا الطغيان الامريكي، ويقال له كفى!! العمل الدولي يتطلب العدل والانصاف، فالقرية الكونية الصغيرة التي نعيش فيها لا يمكن ان تحتمل مثل هذا الجور، لا بد من مؤتمر دولي تدعى اليه المنظمات غير الحكومية العالمية كافة، ويدعى اليه قادة الفكر في العالم، يناقش فيه هذا السلوك الجديد، الذي يعمل خارج الشرعية الدولية، بل ويعمل خارج الدستور والقانون الامريكي نفسه ويخرج بادانة لهذا التوجه في اختراق القانون والشرعية الدولية، فالعالم لا يجب ان يقبل هذا التفرد السلطوي من قبل دولة واحدة تقرر مصير البشرية، خاصة انها تعمل من اجل مصالح خاصة وتحكمها فئة حاقدة على البشرية جمعاء تعمل خارج نطاق الشرعية الدولية والشرعية المحلية، لا بد من ايقاف هذا الخروج على الشرعية الدولية، بل والشرعية الامريكية.

* عضو مجلس الشورى السعودي