حدود الغزل بين واشنطن والجزائر

TT

كانت الولايات المتحدة الأمريكية، أول قوة غربية كبرى تساند الجزائر في حربها من أجل الحصول على استقلالها. جاء ذلك على لسان جون كينيدي في تصريح له عام 1957. وكان لم يزل، آنذاك، عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي. وعقب فترة جد قصيرة من حصول الجزائر على استقلالها، أرادت الولايات المتحدة أن تؤكد لزعمائها الجدد أنها ترغب في توطيد العلاقات مع «الجمهورية الشعبية» الفتية، فدعت الرئيس بن بله لزيارتها ليستقبله جون كينيدي الذي أصبح رئيساً في البيت الأبيض. غير أن الزعيم الجزائري الذي غرست فيه سنوات النضال المريرة والطويلة ضد الاحتلال الفرنسي كراهية شديدة للغرب، نسي بسرعة حفاوة الاستقبال الأمريكي وطار إلى العاصمة الكوبية «هافانا» ليعلن مساندته الكاملة والمطلقة «للرفيق» فيديل كاسترو وهو في قمة الأزمة مع واشنطن بسبب الصواريخ السوفياتية. وقد أثار موقفه هذا غضب الأمريكيين بمختلف توجهاتهم السياسية، خصوصاً الرئيس جون كينيدي الذي استنكر «جحود» الجزائريين. فلما أطاح هواري بومدين برفيقه في الكفاح، أحمد بن بله، لم يحزن الأمريكيون ولم يفرحوا، ذلك أنهم كانوا قد أدركوا أن ربط علاقات جيدة مع الجزائر بات أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً. وقد كانوا على صواب، فهواري بومدين أظهر منذ البداية، أنه يرغب في أن يكون الناطق باسم دول العالم الثالث الجديدة التي حصلت حديثاً على استقلالها، والمدافع عن حقوقها السياسية والاقتصادية أمام الأطماع الغربية الامبريالية.

وفي العام 1973، حضر إلى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ليعلن عن ذلك بصوت عال. وفي العديد من المناسبات، ندّد بشدة بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وبمساندتها المطلقة لإسرائيل. وعقب هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967، أعطى الأمر بقطع العلاقات الديبلوماسية معها. وازدادت العلاقات تدهوراً بين البلدين لما انتقدت الجزائر بلهجة حادة حرب الولايات المتحدة ضد الشيوعيين في شمال فيتنام.

نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وعقب وفاة الرئيس هواري بومدين، ظهرت بارقة أمل في تحسن العلاقات بين البلدين، فقد بدا لواشنطن أن الرئيس الشاذلي بن جديد سوف يتخلّى عن الخط الاشتراكي الذي سلكه صاحبه. وربما سوف يبتعد عن المعسكر الاشتراكي بقيادة ما كان يسمى آنذاك بالاتحاد السوفياتي، تماماً مثلما فعل أنور السادات بعد موت عبد الناصر، ليقترب أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين. وازدادت بارقة الأمل اتساعاً وتوهجاً، عندما لعبت الجزائر دوراً أساسياً في إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الذين احتجزهم الطلبة الإيرانيون عقب اندلاع الثورة في عام 1978، وقيام الجمهورية الإسلامية. غير أن رونالد ريغان، الذي كان شديد العداء لكل من تورط في علاقات مع ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، أطفأ بارقة الأمل، مفضّلا مغرب الملك الراحل الحسن الثاني على جزائر الرئيس الشاذلي بن جديد.

ثم اندلعت ثورة «الخبز» في الجزائر عام 1988، وتساقط الضحايا بالمئات، ووجد النظام الجزائري نفسه أمام أجيال جديدة ترغب في حياة أفضل وتمقت الخوض في «الماضي المجيد للثورة الجزائرية». وأمام الغضب الشعبي العارم الذي هزّ البلاد من أدناها إلى أقصاها، وجدت جبهة التحرير، الحزب الذي ظل يحكم البلاد منذ الاستقلال، نفسها مجبرة على السّماح لأحزاب أخرى بالوجود. وبين عشية وضحاها، ظهرت عشرات الأحزاب وتعددت الصحف المعارضة. وفي شوارع العاصمة «الجزائر» راحت جبهة الإنقاذ الأصولية، بقيادة عباسي مدني وعلي بلحاج، تنظم مسيرات يومية لاستعراض القوة، وقد ارتدى أنصارها الجلابيات الأفغانية، وأطلقوا لحاهم وعلى ملامحهم اليقين بأن السلطة أصبحت بأيديهم، وأن الشارع الجزائري برمته وراءهم. وكانت واشنطن تراقب هذه التطورات الخطيرة بحذر شديد، ساعية إلى تحاشي الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها عشية اندلاع الثورة في إيران.

وعندما ألغى الجيش الانتخابات الاشتراعية التي جرت مطلع العام 1992، وأعلن الحرب على جبهة الإنقاذ وأنصارها، وجدت الولايات المتحدة نفسها «في موقف حرج للغاية»، كما عبّر عن ذلك ويليام ب. كواندت (W. B. Quandt)، أحد مستشاري الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، ومؤلف كتاب «الأزمة الجزائرية». فمن جهة لم تشأ الولايات المتحدة تأييد إلغاء الانتخابات لأنه يتعارض مع المبادئ الديمقراطية، ومن جهة ثانية هي لا ترغب في مساندة جبهة الإنقاذ الأصولية بسبب مجاهرة زعمائها وأنصارها بعدائهم لها، خصوصا خلال حرب الخليج الثانية ومناداتهم بضرورة شن «الجهاد» ضدها. وكمحاولة للخروج من هذا الموقف الحرج، عبّرت الولايات المتحدة عن تقديرها للجهود التي يبذلها النظام الجزائري من أجل ترسيخ الديمقراطية في البلاد والتعددية الحزبية والسياسية في البلاد. من ناحية ثانية هي أبقت الباب مفتوحاً مع جبهة الإنقاذ الأصولية، سامحة للبعض من أبرز أنصارها بالقيام بنشاطات سياسية ودعائية على أرضها.

وخلال السنوات الأخيرة، بدأت واشنطن تأمل من جديد في إقامة علاقات حسنة ومتطورة مع الجزائر، خصوصاً على المستويين الاقتصادي والسياسي. ويبدو أن النظام الجزائري يرغب في ذلك أيضاً، فالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي عرفته واشنطن صديقاً حميماً لأعدائها الاشتراكيين خلال توليه وزارة الخارجية في فترة الرئيس هواري بومدين، بات رجلاً براغماتيكياً، قابلاً للتطورات الكبيرة التي شهدها العالم بعد سقوط جدار برلين وانهيار النظم الاشتراكية، وربما لهذا السبب أصبح يحظى بتأييد كبير من الدول العربية المحافظة.

وخلال جنازة الملك الراحل الحسن الثاني في صيف عام 1999، حرص بوتفليقة على أن يشدّ بحرارة على يد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، وكأنه يريد أن يؤكد له على أن الجزائر ترغب في فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنه شد على يد ايهود باراك، الوزير الأول الإسرائيلي آنذاك، وهو تصرف صفق له كثير من الأمريكيين، السياسيين منهم بالخصوص. وإذا ما كان كلينتون قد نسي تحية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وترك البيت الأبيض دون أن يدعوه إليه، فإن الرئيس جورج دبليو بوش، سارع، في الأشهر الأولى التي أعقبت انتخابه، إلى إصلاح خطأ سلفه. فقد وجه له دعوة رسمية لزيارة واشنطن في شهر يوليه (تموز) من العام الماضي. ولم تمض على ذلك سوى بضعة أشهر حتى وجه له دعوة ثانية. ويقول ويليام ب. كواندت، إن «النفط والحرب ضد الإرهاب»، هما السببان الأساسيان في التوجه الجديد للسياسة الأمريكية تجاه الجزائر. وهو يضيف قائلا: «علينا أن نتذكر العلاقات التي يربطها الرئيس جورج دبليو بوش مع شركات النفط منذ أن كان حاكما لتكساس. واحدة من هذه الشركات وتدعى «انداركو» (Andarko)، ومقرها في هوستون، عملت كثيرا في الجزائر، حيث اكتشفت آباراً جديدة للنفط والغاز «...» وتدخل الحرب ضد الإرهاب هي أيضاً ضمن تحسن العلاقات بين الجزائر وواشنطن، فبعد احداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، قدم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مثل العديد من الرؤساء الآخرين، عروضاً للتعاون في هذا المجال، وهو يأمل من خلال ذلك أن تقبل الولايات المتحدة مستقبلا اعتبار معركة الجزائر ضد الإسلاميين ومعركة واشنطن ضد منظمة «القاعدة» وأنصارها، معركة واحدة.

غير أن ويليام ب. كواندت، يرى أنه لا تزال هناك عراقيل كثيرة تحول دون تحسن كامل للعلاقات بين الولايات المتحدة والجزائر. أولى هذه العراقيل، هو الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والذي ازداد تعقداً في الفترة الأخيرة بعد أن أبدت واشنطن مساندتها لإسرائيل، وعبّرت على لسان الرئيس جورج دبليو نفسه، عن رغبتها في التخلص من ياسر عرفات كرئيس للسلطة الفلسطينية. وأما العقبة الثانية فهي برأي ويليام ب. كواندت، مسألة الصحراء الغربية المعلقة منذ اواسط السبعينات والتي تقف فيها واشنطن إلى جانب المغرب، ثم ان العديد من الدول مثل فرنسا ومصر وتونس والمغرب لا ترغب في تقارب جزائري ـ أمريكي يتمّ على حسابها.. وما دامت هذه العراقيل قائمة بشكل قوي، فإن ويليام ب. كواندت يعتقد بأن العلاقات بين واشنطن والجزائر ستظل محدودة وسطحية.