العلاج بالصدمة .. الدول العربية نموذجا

TT

العالم كله، بما فيه المجتمعات العربية، يمر في مرحلة جديدة وقد تكون سريعة تفضي به إلى مراحل أخرى لا يعلمها إلا الله. وذلك بعد متغيرات عدة حصلت بالتدرج ابتداء بمرحلة الحرب الباردة، وتصدع المدرسة التوليتارية، ومتغيرات شرق أوسطية، وأخيراً وليس آخرا احداث نيويورك وما أسفرت عنه من غزو أفغانستان وازدياد انتقام إسرائيل من الفلسطينيين.

هذه المتغيرات دفعت كافة المجتمعات إلى انتهاج توجهات جديدة نحو تطوير كياناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما فيها تطوير الأداء الإداري للجهاز الحكومي وبناء مؤسسات المجتمع المدني على قدر الدفع الذي تتلقاه من مجتمعاتها. وبعض الحكومات قامت بالدفع الذاتي، نيابة عن المجتمع، وبالذات تلك التي أدركت ببصيرة أو اضطراراً، أن الجمود وموت النظام يتناسبان تناسباً طردياً.

كل ذلك يحصل في المجتمع الدولي باستثناء الدول العربية التي لولا قوة دفع الإسلام لقلت إنها ليست من مجموعة النظام الدولي.

فالدول العربية لم تتزامن مع هذه الأحداث ببناءات ملائمة أو مقبولة على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيرها، بل أصبحت محاولة الانفراد بالزعامة وانتقاد كل منها للآخر ديدن المنابر الإذاعية والصحف المحلية. وكادت المزايدات على قضاياها، وبالذات قضية فلسطين أن تصبح سمة تختص بها السياسة العربية منذ 1952، حتى هذه الساعة، رغم الخسائر المتتالية. ولم تستفد السياسة العربية من التجربة، ولم تقم الأنظمة بجرد سنوي لمراجعة حسابها السياسي منذ التحرر وتكون الدولة القطرية حتى هذا اليوم.

فالدول العربية تحتاج إلى صدمة حقيقية لكي تعلم أنها في هذه المرحلة أحوج ما تكون الى التضامن إذا كان الاتحاد مستحيلاً.

إن الدول العربية تعيش في خلاف وتفرق اجتماعي ووهن سياسي وتخلف اقتصادي وخطاب شاعري قبلي يبالغ في تمجيد الذات. ليس بخاف على أحد الدول التي تنظر إلى الثقافة الإسلامية نظرة العداء والكراهية وأولها إسرائيل، التي تستفيد من هذا الوهن أيما استفادة، مما مكّنها من تواصل سياسة العربدة والغطرسة. ناهيك عن تجاهل القوى العظمى للدول العربية، حيث لم تأبه بها لما تراه من خلافات وانقسامات تعم أرجاء الوطن العربي بكامله. أضف إلى ذلك طمع دول الجوار بها من غير العرب طالما هي على تلك الحالة. فالدول العربية لم تقرأ التاريخ قراءة من يرغب النجاح حتى بدرجة جيد، ولم تحضر الاحداث المعاصرة حتى بدرجة مراقب، والدليل على ذلك أمران:

الأول، هو أن الدول العربية لم تقرأ تاريخ الاستشراق في المنطقة، وهو أن رحلات الاستشراق والدراسات الأنثروبولوجية والسسيولوجية التي سبقت استعمار الدول العربية، قدمت لساسة وعسكر الاستعمار فائدة عظيمة، حيث راكمت هذه الدراسات للايكلوجية العربية نصوصاً جد مفيدة لقرار الاستعمار.

إذ كانت البوصلة التي وجهتها لمجتمعات ضعيفة في بنياتها الاقتصادية شديدة الفرقة الإقليمية، لكنها غنية بما تحتوي الجولوجيا الجغرافية من ثروات عظيمة، بنت أوربا بكاملها، وعمل الاستعمار على توسيع الكانتونات فيها على هامش الخلافة العثمانية المريضة. وعندما أرادت دول الاستعمار إطلاق رصاصة الرحمة على النظام المصاب بداء العنصرية المميت، التتريك، قام الاستعمار بدغدغة أحلام المجتمعات العربية بالانفصال، (الثورة العربية) وبعد ما دفن جثمان الخلافة، تنكر لوعوده، وقطع جسم الكيان العربي أوصالا كحالته الراهنة.

فالتاريخ يضع اليد العربية بكاملها وليس الإصبع فقط على أسباب ويلاتها ونكباتها، ورغم ذلك لم تحاول تناول الدواء من أجل الشفاء.

أما الأمر الثاني، فهو أن المجتمعات المتقدمة استفادت من المعرفة والتقنية لتحقيق أهدافها الاجتماعية والسياسية، حتى استخباراتها وظفتها لمقاصد البحوث العلمية من أجل جلب التقنية، وهذا ما تفعله إسرائيل التي أشك أن ميزانية البحوث فيها تعادل ميزانية جيوش العالم العربي.

أما المجتمعات العربية فلم تعلم أن الاستعمار ما كاد يستعمرها لولا تفرقها وخلافاتها وضعفها، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن الدول الأوربية رغم أنها دول قوية فقد التفت على بعضها في حلف المجموعة الأوربية، لكي تكون قارة منافسة. فالتكتلات السياسية والاقتصادية هي موضة العصر، ولكن الدول العربية آخر من يعلم وآخر من يستفيد.

ولم تستفد الدول العربية كذلك من مخرجات المعرفة على المستوى السياسي والصناعي والتقني والاقتصادي والاجتماعي، رغم الكم في التعليم. لأن الدول العربية تصرف على الأمن السياسي والدعاية للنظام أضعاف ما تصرفه على البحوث العلمية ومختبرات الطاقة ومكونات البناء الاقتصادي والدمقراطي. فسياسة الدول النائمة، هي قهر المعرفة بمثل ما قهرت المروءة والشجاعة. أما في الدول الطموحة فالمعرفة توجه السياسة وترشدها.

فالدول العربية تعاني ـ بما فيها دول النفط ـ من مشاكل داخلية مزمنة، من صحية وبيئية وتعليمية وبطالة، مع تدني فرص العمل، ومعوقات بيروقراطية لا تعد ولا تحصى.

ان مناهج التعليم العربي رغم تقدمها الكمي فشلت في تعليم القدوة في المعرفة والتربية، كما فشلت السياسة أن تقدم نموذج الزعيم. ان الشعوب العربية تتطلع الى ان تحقق مكتسبات المنجز الغربي بالزي العربي. وتريد الأخلاق الغربية بالسلوك الإسلامي، وتريد تكتلاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً عربياً، وتواصلاً أسرياً ومواصلات واتصالات تقتلع الحدود وكل ما يحقق عملية الانصهار والذوبان الاجتماعي. وهي تعرف حق المعرفة أنها لن تصل إلى ذلك عبر الإرادة السياسية العربية، بل تنشدها من مؤسسات المجتمع المدني وبالذات الثقافية والعلمية، وتحديداً من الدماء العربية التي تعايشت مع المنجز الغربي والقادرة على نسج مجتمع عربي منجز.

من كل هذا نجد أنه بات من الضرورة على الدول العربية أن تختار الطريق الشاق للتحديث والتطور، وليس بالضرورة التماهي مع النموذج الغربي. فللثقافة الإسلامية مخرجات قادرة على أن توجد النموذج البديل إذا تحررت من القيود السياسية والهوية الإقليمية.

فالحضارة الغربية استفادت من الحضارة الإسلامية عن طريق الاحتكاك والترجمة وحتى المواجهة، وكذلك الحضارة الغربية معلومة لدى بعض أبناء الإسلام بالتعلم والاحتكاك. وفي إمكانهم بناء المؤسسات المدنية على المقاس الإسلامي والإنساني والعالمي.

ان الثقافة الإسلامية بروح التسامح والنزوع إلى البحث العلمي وعدم الهيمنة السياسية عليها، قادرة على أن تقدم للعالم بأكمله نظرية للتطور الجديد. سيما ان الثقافة الغربية شاخت ووصلت إلى مرحلة الكهولة.

ومصادر الثقافة الإسلامية إذا تحررت من بعض الوسائط والمرجعية التي تأخذ الطريق المعاكس لمقاصد الإسلام المرحلية، قادرة على تقديم عدالة القضايا الاجتماعية والسياسية التي تتسع لإسعاد البشرية بلا استثناء، من خلال حلول لمعالجة الاقتصاد والأيكولوجيا البشرية ومعظم القضايا القائمة التي تواجه الإنسان المعاصر.

* كاتب سعودي