حماقة القوة وقوة الحماقة

TT

ردود الفعل الامريكية على حكم القضاء المصري في قضية سعد الدين ابراهيم موقف مؤسف لدولة هي اليوم الأعظم بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.

وتفاصيل القضية لا تهمني، لأنها كأي قضية أخرى تعرض على العدالة، وما يهمني هو انها تسلط الاضواء على وضعية شريحة من ابنائنا، حدث انهم يحملون جنسية أجنبية بجانب جنسيتهم الاصلية، واتخاذ موقف عربي موحد بالنسبة لهم جميعا خطأ قد تترتب عليه نتائج بالغة الخطورة، سواء كان الموقف تقبلا أو تنديدا، وسواء تعلق الامر بمن كان منسجما مع سلطات بلاده أو متناقضا معها.

وكنت اكتفيت في احاديث سابقة بلمسات سريعة لتلك القضية، رجوت ان تستنفر عملية تفكير جماعي على الساحة العربية للتوقف عند قضايا جزء من الأمة يعيش خارج الوطن، وكنت سعيدا بردود فعل عدد من القراء، وربما اضاف التشنج الامريكي اليوم شيئا جديدا يتعلق بحملة الجنسية المزدوجة ممن يقيمون بشكل دائم في بلدانهم الاصلية.

وكنت قلت بأن الجزائر والمغرب هما من أكثر البلدان العربية، فيما اعرف، تأثرا بوضعية الهجرة الى اوروبا، بالنظر الى ان ابناء البلدين يشكلون اغلبية المهاجرين من الوطن العربي، مع جالية تونسية اقل عددا.

ولم يواجه البلدان الشقيقان، المغرب وتونس، طوال العقود الماضية اي مشاكل تتعلق بالعلاقات مع انظمة الحكم، وظل ارتباطهم السياسي ـ الاداري، والمالي ـ الاجتماعي متواصلا بالوطن الأم، وهو ما لم يتوفر للهجرة الجزائرية، لأن شرائحها لم تعد مقصورة على الذين ارتبطوا بالثورة الجزائرية، بل اضيف لهم آخرون من بينهم آلاف «الحركى» Harkis، الذين هجروا الجزائر بعد الاستقلال، لتناقضهم مع الثورة من أجل الاستقلال.

وقبل هؤلاء كان هناك التناقض الانساني المأساوي الذي ترك رواسب في صفوف الهجرة من الصعب تجاوزها بين الوطنيين، نتيجة لتصلب جبهة التحرير الوطني في تعاملها مع محاولات تفتيت جبهة الصراع ضد العدو.

ثم برزت اجيال جديدة لم تلق الرعاية الكافية لاستيعابها وطنيا، خصوصا ابتداء من الثمانينيات، وكنت اشرت لها بمناسبة مباراة الكرة الشهيرة بين الجزائر وفرنسا.

والتحق بالهجرة منتمون لتيارات فكرية، تناقضت، في معظمها، مع عملية استرجاع معالم الهوية الوطنية التي انطلقت في الجزائر وفاء للمبادئ التي سطرتها الحركة الوطنية، أو تنافرت مع نظام الحزب الواحد الذي تطلبته وضعية البلاد آنذاك، أو مع الاختيارات الاقتصادية التي تصدت لامكانية نشوء رأسمالية طفيلية، كان المعتقد انها ستكون أكثر شراسة من رأسمالية الاستعمار، على حد تعبير الرئيس بومدين.

وأضيف الى هؤلاء في العشرية الأخيرة عناصر ادعت ان الارهاب الاسلامي يطاردها، وكانت، في معظمها، تجسد ما سمي لجوءا اقتصاديا بواجهة سياسية.

وخلق التراخي في التعامل الحازم مع قضايا الهجرة واقعا احسنت مصالح البلد المضيف استغلاله لمصلحتها، ونشطت مصالح المخابرات لكي تضمن لنفسها موطئ قدم مستقبلي في الجزائر أو نقاط وثوب نحوها.

وكنت اشرت في سلسلة «الزلزال»، الى قيام مراكز بحوث فرنسية بتكليف الطلبة الجزائريين اعداد دراسات تتناول كل أوجه النشاط الوطني، وقلت ان الامر لم يكن فوق مستوى الشبهات، إذ كاد يكون تكليفا لهم بنشاطات مخابراتية.

وكان من العلامات التي لم تجد حقها من الدراسة تكوين الاكاديمية البربرية في فرنسا، في العام التالي مباشرة لتأميمات المناجم التي قامت بها الجزائر في مايو (أيار) 1966، بحيث بدت الاكاديمية كعملية سياسية انتقامية اكثر منها كاهتمامات ثقافية، خصوصا عندما نعرف ان قانون الثورة الفرنسية باعتبار الفرنسية لغة وطنية ورسمية وحيدة ما زال ساري المفعول، وان فرنسا ترفض التعامل مع لغاتها القديمة بالشكل الذي تريد منا ان نتعامل بها مع شظايا لهجاتنا المحلية، وبهدف واضح تأكد اليوم انه العمل على تفتيت الوحدة الوطنية بتفتيت أهم عناصرها وهي اللغة.

واندرج نشاط الاكاديمية في سياق نظرة المستعمر الفرنسي القديم، في تكثيف الاهتمام بمناطق دون غيرها، بشرا وفكرا ولغة، وستتولى تطهير الامازيغية من الكلمات العربية.. الدخيلة!

وسنجد انه اذا كانت الهجرة في تونس والمغرب تشكل، مع السياحة، مصدرا رئيسيا لميزانية الدولة فإن الجزائر لم تستفد الكثير من كل المغتربين، والعكس هو الصحيح.

وكانت القوانين التي تلزم المغترب بارسال جزء من دخله بالعملة الاجنبية وعن طريق البنوك من الميوعة بحيث تناقصت واردات الجزائر من العملات الاجنبية بشكل رهيب ابتداء من العقد الثاني لاسترجاع الاستقلال.

وربما كانت القيادة آنذاك ترى، بنوع من الخيلاء الوطنية، بأنها ليست في حاجة لابتزاز فرنكات معدودة من مغتربين فقراء، بينما تتوفر البلاد على مصادر أخرى للدخل تفرض عليها الترفع عن ذلك.

وكان على التقنيين ان يضعوا أمام السياسيين تصورات واضحة للعلاقة بين المغترب ووطنه الاصلي، انطلاقا من ان القضية لا تحتمل اجراءات عاطفية، وان التساهل في هذا الامر ينعكس سلبا على ارتباط المغترب بوطنه.

وبدأت خيوط علاقات غريبة تنسج بين أوساط في الهجرة وموظفين في بعض المؤسسات، شجعت التهريب وجعلت من نظام المقاصة نزيفا اصاب دخل البلاد في بداية الامر، ثم انهيارا تدريجيا في سعر الدينار الجزائري، الذي كان يساوي في الستينيات نحو فرنك ونصف فرنك، فاصبح الفرنك في الثمانينيات يساوي نحو 12 دينارا.

وهذا يفسر تنامي عدد الاثرياء الجزائريين في الخارج، ومنهم من كانوا اساسا من الاداريين الذين استعانت بهم الجزائر لبناء اقتصادها، رغم حيادهم في مرحلة التحرير الوطني، لكي لا استعمل تعبيرا آخر.

ولم يكن من الممكن ان يتم هذا بدون تواطؤ من المصالح الفرنسية، التي كانت تريد تحييد الدور الوطني للجالية الجزائرية وتدجين مسجد باريس في مرحلة أولى، ثم استثمار الاجيال الجديدة للتأثير على المسيرة السياسية للجزائر المستقلة، وكان واضحا ان هناك محاولة فرنسية للعودة من النوافذ التي اعدها الجنرال دوغول عندما وصل الى اليقين بأن بقاء الاستعمار الفرنسي المباشر في الجزائر يتناقض مع الوجود الفرنسي المأمول.

وتواصل العمل لخلق واقع جديد، تجسد في اعطاء الجنسية الفرنسية بشكل آلي لكل من يولد على الارض الفرنسية، وهو ما فتح باب الجنسية الثانية أمام الابناء، مما ادى، بعد عدة عقود، الى تزايد الذين يحملون الجنسيتين.

وبدلا من صدور قوانين تتحكم في الوضعية صدر قرار جزائري أحمق في بداية الثمانينيات يخير الشباب بين اداء الخدمة العسكرية في فرنسا أو في الجزائر، واصبح الاذكياء يختارون المكان الاكثر راحة وتفهما، وضفاف السين الطف من صحراء الجزائر.

وأوساط الشباب هي المكان المتميز للاهتمامات المخابراتية، اعدادا وتجنيدا يتوجه في معظمه الى التخطيط بعيد المدى.

وهذا يعود بي الى بداية الحديث، حيث يتأكد اليوم ان الجنسية الثانية هي طريق قوى كبرى لاختراق صفوفنا وللتأثير على الاختيارات السياسية لبلداننا، ويضاف لذلك ما يحمله الزواج المختلط من اخطار على التوجهات المستقبلية لابنائنا، بجانب وضعية الابتزاز التي يعيشها كل مواطن تزوج بأجنبية في بلاد الغربة.

وبدلا من ان تكون الجالية صوتنا المعبر عن ارادتنا يمكن ان تكون وسيلة للتأثير على اختياراتنا عبر تجنيد ابنائنا ضد أوطانهم.

وبدون ان يعني هذا حكما على الجميع فإنه يفرض على القيادات ومراكز الدراسات العربية ضرورة دراسة القضية، خصوصا وقد بدأت تتناثر هنا وهناك افكار عن توجهات غريبة ترى في «قرضاي» نموذجا يُحتذى، (وقرضاي لمن لا يعرف من حملة الجنسية الامريكية)، كما ان هناك حديثا غامضا عن تشجيع الاختيارات الفيدرالية، خلفيته الحقيقية تفتيت دول كبرى لتكون سهلة المضغ.

وبالنظر الى وضعية العديد من اقطارنا فإن دولا عربية كثيرة تستهدفها مخططات تجزئة، تتضح معالمها اليوم أكثر فأكثر.

وإذا كان الموقف الامريكي من قضية الدكتور سعد الدين يمثل حماقة القوة فإن قوة الحماقة قد تذهب بالقضية بعيداً.

وما زلت أردد بأن علينا استيعاب قصة الثيران الثلاثة، والتشبث بموقف عربي موحد تجاه كل القضايا التي تتصل بحرمة التراب الوطني وحرمة الحدود الدولية وحرمة الوحدة الوطنية، بمفهومها الشامل.