هل تنبأ كانط بالعولمة قبل حصولها؟

TT

في أواخر القرن الثامن عشر، اصدر كانط كتاباً بعنوان: مشروع من أجل السلام الدائم بين الأمم. وفي أواخر القرن العشرين، يتنطّح فيلسوف ألماني جديد لمناقشة هذا المشروع بعد مرور مائتي سنة عليه. انه ينفض عنه غبار الزمن لكي يعرف ماذا تبقى منه، وماذا سقط على الطريق ولم يعد صالحاً لعصرنا؟.. بالطبع فإننا جميعاً نشارك كانط همّه الأساسي في إقامة السلام الدائم بين الشعوب.. بالطبع فإننا جميعاً نتمنى أن تنتهي الحروب الوحشية التي تمزق الأمم وتقضي على ثرواتها وشبابها وإمكانياتها. ولكن ما كان يصلح لعصر كانط ربما لم يعد صالحاً لعصرنا الراهن. فالأمور تعقّدت كثيراً، والأدوات التي بلورها كانط لبلوغ هذا الهدف النبيل لم تعد هي ذات الأدوات التي يبلورها كانط الألماني الجديد: يورغين هابرماس. فمن المعلوم أنه يطرح نفسه ككانط أو كهيغل ثان يريد أن يعيد للغرب ثقته بنفسه، وعقلانيته، وقيمه التنويرية والديمقراطية. فبعد الحملة النقدية العارمة التي انصبّت على الحداثة بدءاً من نيتشه وهيدغر، مروراً بمدرسة فرانكفورت، ووصولاً إلى ميشيل فوكو وجيل ديلوز ودريدا، فإن هابرماس ينهض الآن في الغرب لكي يقول للجميع: كفى! كفى هجوماً على الحداثة والتنوير والعقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومجمل القيم التي تشكل جوهر الغرب وهويته.

بالطبع فإن هابرماس يعترف بالانحرافات التي طرأت على الحداثة الأوروبية طيلة القرنين الماضيين. فبيننا وبين كانط أو هيغل حصلت أشياء وأشياء. لقد حصلت حربان عالميتان، ومجازر استعمارية، وكوارث فاشية وشيوعية، ومأساة فلسطينية لا تزال تنزف حتى هذه اللحظة، وبالتالي فإن تفاؤل فلاسفة التنوير الأوائل يبدو الآن ساذجاً وسطحياً. لم نعد نستطيع أن نتفاءل بمستقبل الجنس البشري كما كان يفعل فولتير مثلاً، أو ديدرو، أو كانط ذاته، أو هيغل.. إلخ. أصبحنا أكثر تواضعاً وأقل ثقة بالطبيعة البشرية. وبهذا المعنى، فإن نيتشه كان على حق، إذ نبَّه ـ قبل الأوان ـ إلى الجوانب السلبية للحداثة الأوروبية. وهيدغر كان على حق إذ نبّه إلى خطورة هيمنة التكنولوجيا على الطبيعة بشكل ساحق في العالم الصناعي، وهذه الهيمنة أصبحت تهدد المناخ الجوي والسماء والأرض في آن معا، ومدرسة فرانكفورت كانت على حق إذ نبّهت إلى خطورة تحول عقل التنوير من عقل تحريري إنساني إلى عقل حسابي، بارد رأسمالي لا يرحم. وميشيل فوكو أصاب ولم يخطئ، إذ قال بأن مشروع الحداثة تحول إلى مشروع تدجيني، تطويعي، أي يطوّع الأجساد والعقول عن طريق آليات سلطوية فنّية.. والماركسيون كانوا على حق إذ أدانوا مصادرة مشروع التنوير من قبل طبقة بورجوازية ورأسمالية تسحق الآخرين في الداخل والخارج سحقاً، بل وتحول ثلاثة أرباع البشرية إلى جوعى مهانين في كرامتهم وإنسانيتهم، هذا في حين أن الربع الآخر يعيش حياة البطر والترف..

كل هذا يعترف به هابرماس ويوافق عليه، ولكنه مع ذلك يبقى مصراً على القول بأنه لا بديل عن التنوير إلاّ التنوير ذاته: أي التنوير منقّحاً، ومصححّاً، ومراجعاً، على ضوء التجربة الطويلة للقرنين الماضيين. وهي تجربة ليست كلها سلبيات على عكس ما يزعم نقاد الحداثة. فالحضارة الحديثة كلها، أي الحضارة التي نعيش فيها الآن، هي وليدة مشروع التنوير. فالسيطرة على الطبيعة من قبل الآلات التكنولوجية تمت بفضل ذلك المشروع الكبير الذي تعود بلورته إلى ديكارت في الواقع قبل كانط وهيغل.. وتقدم الطب الهائل يعود إليه أيضاً. وقل الأمر ذاته عن تأسيس دولة الحق والقانون وإحلالها محل دولة الاعتباط والاستبداد..

وبالتالي فإن البشرية الأوروبية ليست مستعدة لأن تعود إلى الوراء، أي إلى الدولة الأصولية القديمة التي بذلت كل جهدها من أجل التخلص منها، فكانط عندما كان يفكر في السلام بين الأمم، كان يفكر في الواقع في كيفية تخليص الأمم الأوروبية من الحروب المذهبية أو القومية الشوفينية التي أنهكتها. كان يفكر في الحروب التي دارت بين الدول البروتستانتية والدول الكاثوليكية ويتمنى لو يستطيع إيجاد حل لها لكي تنعم الشعوب الأوروبية بالسلام والأمان، ثم الرفاهية والازدهار. ولكن كانط لم يكتف بذلك في الواقع. فمن خلال الحالة الأوروبية أو فيما وراءها كان يفكر بحالة العالم ككل. وهنا تكمن عظمته واتساع أفقه. فقد استطاع أن يستبق على القرون القادمة بحدسه الفلسفي البعيد المدى. فقد راح يحلم بتشكيل دولة كوسموبوليتية، أي كونية، تشمل جميع شعوب الأرض! وهذا الحلم الطوباوي الذي كان يبدو لمعاصريه شيئاً جنونياً يكاد يتحقق في عصر العولمة الشمولية الذي ندخله الآن. فالعالم، كما يقول الخبراء المعاصرون، أصبح عبارة عن قرية كبرى مرتبط ببعضه ببعض عن طريق تكنولوجيا المعلوماتية الحديثة من فاكس، وانترنت، وايميل، وهاتف نقال، وفضائيات تلفزيونية.. إلخ. وبالتالي فالعولمة السياسية أصبحت على الأبواب. ولم يعد أحد يستطيع أن يغلق عليه أبواب بيته ـ أو دولته ـ ويقول: أنا حر في أن أحكم شعبي كما أشاء وبقوانيني الخاصة!، هذا الشيء كان ممكناً إلى ما قبل عشر سنوات أو حتى خمس سنوات، بل ولا يزال سائداً من الناحية العملية ـ حتى الآن. ولكنه أصبح صعباً أكثر فأكثر كلما تقدمنا في صيرورة العولمة. فالعولمة الفلسفية على طريقة كانط وهابرماس سوف تفرض نفسها في نهاية المطاف. والقانون الدولي المنبثق عن هذه الفلسفة سوف يعمّم على جميع شعوب الأرض.

وهنا أخشى من حصول صدام مروع بين عالم الإسلام/ وعالم الغرب. فإذا لم يحصل تطور سياسي في بلادنا، إذا لم نقترب بشكل أفضل من دولة الحق والقانون، دولة المواطنية الحديثة وحقوق الإنسان، دولة الحريات الصحفية والسياسية والدينية، فإن الصدام محتوم بدون أدنى شك، بل انه أصبح أمراً واقعاً الآن، ولا أعرف كيف سنخرج منه أو متى؟..

ان هابرماس يجدّد الفكرة الكانطية ويوسعها ويجعلها أكثر محسوسية على ضوء التطورات العالمية الراهنة. وهذا أمر طبيعي، فكل فيلسوف هو ابن عصره، ولكنه ينطلق منها مبدئياً ويبني عليها. انه يحلم كسلفه الكبير بتحقيق نظام عالمي جديد تسوده العدالة والمساواة، وكذلك السلام والأمان. وقد يبدو هذا الحلم طوباوياً أكثر من اللزوم إذا ما نظرنا إلى حالة الصراعات التي تمزق العالم اليوم. ولكن هابرماس لا يكتفي بالحلم، وإنما يبلور لنا المشروع العملي لتحقيقه، انه يخطط لحكومة دولية تنفيذية وتشريعية وقضائية تنطبق قوانينها على جميع شعوب الأرض. وهذه الحكومة الكوسموبوليتية أو الكونية لن تنجح إلا إذا كانت وفية للمبدأ الأساسي الذي طالما ركزت عليه فلسفة كانط وروسو: مصالحة السياسة مع الأخلاق وتجسيد حكم العدالة على وجه الأرض.