نصر الديمقراطية الهادئ

TT

يبدو ان سلسلة بارزة من الأحداث التي وقعت خلال الأشهر الأخيرة قد توفر مجالا للتفاؤل رغم عناوين الصحف الداكنة التي تتحدث عن العنف والخلل الاقتصادي. وما نحن بصدده هنا يشير الى اكتمال زهو الديمقراطية كمسلك عالمي، الأمر الذي يتهدد الجيوب المتبقية من عصر الاستبداد.

قبل عقد مضى كان صاموئيل هنتنغتون ربط بين مصطلح «الموجة الثالثة» والاتجاه نحو الديمقراطية الذي كان قد بدأ في البرتغال عام 1974. فالموجة الأولى كانت قد تواصلت منذ الثورة الأميركية وحتى تفكك الامبراطوريات في نهاية الحرب العالمية الأولى. تلتها الموجة الثانية التي بدأت منذ التحررمن الاستعمار عقب الحرب العالمية الثانية. وقد أعقبت الموجتان موجة جزر مع انتشار الفاشية في أوروبا خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي والشيوعية وأشكال من الاشتراكية المستبدة التي أحكمت قبضتها على العالم الثالث خلال الستينات والسبعينات.

استعارة هنتنغتون للتعبير المذكور قد يحمل في طياته توقعات بأن الموجة الثالثة، هي الأخرى ستتراجع. لكن شيئا مختلفا البته حدث. فالعديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ، كما يشير الواقع، تعاني من أنظمة حكم مستبدة. لكن ما يحدث في الارجنتين يثير الاهتمام، حيث بات السياسيون يشعرون بالقلق مع انهيار الأوضاع الاقتصادية، بينما لم يتحرك العسكر للاستيلاء على السلطة ـ وما يحدث في أوروبا الشرقية ، حيث بات الشيوعيون السابقون يشغلون مناصب الدولة دون أن يحاول أحد اعتراض مسيرة الديمقراطية. ويشير تقرير أعدته هيئة «فريدوم هاوس» الأميركية الى أن عدد الحكومات المنتخبة ديمقراطيا في العالم واصل الارتفاع، حيث بلغ 121 من أصل دول العالم الـ192 المستقلة هذا العام.

لقد باتت الديمقراطية سلوكا متوقعا، ومن الصعوبة بمكان مقاومة ما تزعمه. ويمكننا التفكير فيما حدث خلال شهر ابريل (نيسان) الماضي، عندما أطاح انقلاب برئيس فنزويلا هيوغو شافيز، لكن دول أميركا اللاتينية الأخرى أصرت على عودته للسلطة ـ رغم الأمنيات الجلية لادارة بوش. لم يحدث ذلك لأن جيران شافيز كانوا يحبونه أكثر مما نفعل نحن، بل لأنهم أصروا على الدفاع عن حق الناخبين.

وخلال شهر يونيو (حزيران) الماضي أدهش الرئيس بوش العالم الدوائر الديبلوماسية باصراره على أن تحقيق تطلعات الفلسطينيين مرهون بالديمقراطية. وها هم زعماء العرب، الذين لم ينتخب أحدهم انتخابا، يمارسون ضغوطهم في واشنطن من أجل أن تتبنى سياسة مختلفة ، لكنهم ترددوا في تبني رؤية بوش. وكما قال وزير الخارجية السعودي ،الأمير سعود الفيصل: «عندما تتم الانتخابات في المناطق الفلسطينية سيكون من حق الفلسطينيين وحدهم اختيار زعيمهم باسلوب ديمقراطي. ونحن نتمنى أن يجري الفلسطينيون الانتخابات مبكرا».

بعد أيام لاحقة ، أصدر برنامج الامم المتحدة للتنمية والصندوق العربي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية أول تقرير عن التنمية البشرية في العالم العربي. وقد جاء في ذلك التقرير الذي ساهم فيه عشرات الباحثين العرب بوضوح: «ان موجة الديمقراطية التي عدلت أنظمة الحكم في معظم (أنحاء العالم) تكاد بصعوبة تصل الى العالم العربي. والعجز في الحرية يعيق التنمية البشرية كما انه واحد من المظاهر المؤلمة االتي تعرقل التنمية السياسية».

وبعد اسبوعين لاحقين، التقى عشرات العسكريين العراقيين في المنفى لتنظيم حركة ضد صدام حسن. وقد أقروا مبدأ «الديمقراطية الفيدرالية» في العراق وتبنوا «ميثاق شرف» متعهدين باحترام «اختيار الشعب العراقي للنظام الذي يرغب فيه». وقالوا انهم يرغبون في العودة لمواقعهم العسكرية متى ما «بدأت مرحلة بناء المؤسسات المدنية».

وفي نفس الوقت تقريبا، قرر زعماء أفريقيا الذين التقوا في مدينة دربن بجنوب أفريقيا، انشاء الاتحاد الأفريقي ليحل مكان منظمة الوحدة الأفريقية. كانت المنظمة تعتبر ان ما يفعله حاكم مستبد في بلاده لا يعني أحدا غيره. لكن الاتحاد الأوروبي اعلن ان من أهدافه «دعم المبادئ والمؤسسات الديمقراطية» و «حماية حقوق الانسان والشعوب».

وخلال الشهر الماضي أصدرت الأمم المتحدة تقريرها الخاص بالتنمية البشرية. وبعدما اعتدنا على أن تجنب هذه التقارير التعرض للحكام المستبدين ، تبنى تقرير هذا العام اطارا مختلفا البتة ، حيث جاء فيه: «ان تعزيز التنمية البشرية يتطلب ادارة ديمقراطية من حيث الشكل والمضمون». وأوضح التقرير ما يقصده بالاشارة الى: التمثيل النيابي والانتخابات العادلة والمراجعة والتدقيق في المسائل المالية وحرية التعبير.

ولمزيد من التأكيد، جاء التقرير مليئا بالتحذيرات المتعلقة بالممارسات التي عفى عليها الزمن في بعض الديمقراطيات الناشئة، وبفشل دول أخرى في تبني أسلوب ادارة أفضل أو في تحقيق تقدم اجتماعي. وفي تناوله لهذه المسألة ردد التقرير مخاوف اقتصادية أطلقها مؤخرا خبراء الديمقراطية بشأن دول تخلصت من الديكتاتورية دون أن تصبح ديمقراطية بشكل واقعي.

وهذه الشكاوى تعكس حالة صادقة من خيبة الأمل، لكنها تفتقر لبعد النظر. وعلينا أن لا ننسى ان ديمقراطيتنا استغرقت 86 عاما لكي تتخلص من العبودية، واستغرقت 144 عاما لتمكين المرأة من حقوقها، و189 عاما لضمان حق المواطنين السود في التصويت. فأولئك الذين ينتقدون الديمقراطيات الحديثة يزعمون انها لم تتبن السياسات الفعالة، لكننا بعد قرن ونصف قرن من الديمقراطية تعرضنا لحالة الكساد العظيم الشهيرة. فالديمقراطية ليست حديقة زهور. انها معرضة لكل ما يمكن أن يصيب البشر.

عندما نشأت الديمقراطيات عقب كل ما تسببت فيه الحرب العالمية الأولى والثانية من مآس وأوقات صعبة، استكانت لايديولوجيات كهنوتية. وتلك المهدئات المضللة لم تعد موضع تقدير. في الوقت الذي تواجه الديمقراطيات الناشئة هذه الأيام نفس المشاكل، لكنها تحاول تجاوزها.

وتشير الأحداث سالفة الذكر اضافة الى تقرير «فريدوم هاوس» حول الديمقراطيات الناشئة الى أن الديمقراطية رسخت مكانتها كسلوك عالمي. وبالتالي، فان حدوث تراجع الموجة الثالثة أقل احتمالا من الاتجاه نحو موجة رابعة. وهي قد تصل الى الصين، حيث عقد الشباب وجيل الاصلاحيين العزم على توارث السلطة. كما انها قد تصل الى ايران، حيث أمكن للعديد من المواطنين على اختلاف مشاربهم، التعبير بجلاء عن معارضتهم للحكم الذي يستند على الدين. والتحول نحو أنظمة ديمقراطية في بغداد وطهران قد يدشن حملة من التغيير في أنحاء العالم الاسلامي، كما سيفعل التحول في الصين بالقارة الآسيوية.

ولن يؤدي مزيد من الانتشار الديمقراطي الى نهاية الكون. بل انه يبشر بعالم أكثر ألفة وانسانية وأمنا. وذلك هو المطلوب.

* باحث مقيم في معهد «أميركان انتربرايز» ،ومؤلف كتاب «السماء في الأرض:صعود وهبوط الاشتراكية».

خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»