المغرب والإصلاح السياسي

TT

تتجه الأمور في المغرب، نحو أن تكون الانتخابات التشريعية التي ستجرى في 27/9، تجربة لا تطعن فيها القوى السياسية، على عكس ما كان الأمر في السابق. وحينما تتضح الخريطة السياسية في البلاد تبعا للوزن الحقيقي الذي ستمثله في تلك الخريطة مختلف الأحزاب، سينتهي الجدال الذي رافق الانتخابات في المغرب، منذ الستينات، حيث كانت هناك دائما شكوى من أن النتائج مصنوعة، إما بسبب تدخل الإدارة، وإما ـ في السنوات الأخيرة ـ بسبب استعمال المال لشراء الأصوات.

ستنزل إلى الحلبة الأحزاب الديموقراطية، التي تشكل نواة حكومة التناوب التوافقي الحالية، ومعها الأحزاب التي كانت الإدارة فيما مضى تسعفها بالمدد لكي تكون معارضة للأحزاب الديموقراطية، وأحزاب أخرى شكلها فاعلون جدد، أي ما مجموعه 26 حزبا.

وستكون الخريطة السياسية المقبلة، ثمرة الصيغة التي وقع عليها التوافق، وهي الاقتراع باللائحة بأكبر معدل. وستكون الخريطة حتما مبلقنة، ولن تعطي إلا ائتلافا من عدة أحزاب، تتحالف فيما بينها لتكوين حكومة.

سينتهي الجدل حول أسلوب صنع الخريطة، وهذا شيء إيجابي. لكن لن يحرز المغاربة حكومة قوية، وهو أمر يرتبط في الأنظمة الديموقراطية المتطورة، بالنجاعة والمردودية. ذلك أنه إذا كانت النجاعة والمردودية مطلوبتين، فإن وجود حكومة قوية يبقى مؤجلا.

سيكون إيجابيا أن يخرج المغاربة من دوامة الجدال حول صنع الخريطة، بعد أن خرجوا من أجواء القطيعة والتشنج، وتراضوا على تعديلات دستورية متوافق عليها،

والأهم من ذلك أن المغاربة يجب أن يتخلصوا بعد الآن من النقاشات المريرة التي طبعت الممارسة السياسية منذ أربعة عقود، حول كيف تكون المؤسسات، للانتقال إلى النقاش حول ماذا تصنع هذه المؤسسات.

والواقع أنه طيلة العقد الماضي، حينما نشط المسلسل الديموقراطي، الذي أفضى إلى انفتاح سياسي وإصلاح دستوري، كانت هناك انشغالات أساسية تربط الإصلاح السياسي بالإصلاح الاقتصادي.

أي أن الديموقراطيا هي مجرد أسلوب لتدبير الشأن العام، أما الغاية فهي أن يتم تدبير الشأن العام على نحو يؤدي إلى تحسين مستوى العيش، وأن تكون هناك برامج تعليم كفيلة بأن تكون المواطن النافع لنفسه والقادر على أن ينفع مجتمعه، وأن تكون هناك حركية اقتصادية تلبي حاجات المواطنين، وتمنح البلاد المناعة من الوقوع في المنزلقات التي يصنعها الخصاص الذي يفرخ الشعبوية والتطرف.

والواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن، يصنف المغرب في عداد البلدان التي تعثرت فيها التنمية وأفرزت أوضاعا جد قلقة بمؤشرات غير مشرفة في جدول التنمية البشرية الذي يعده برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وهي مؤشرات لا تتناسب مع الخطوات الهامة التي تم قطعها في المجال السياسي. وكل ذلك بسبب أن الآلة الاقتصادية لا تدور حتى الآن بالكفاءة التي تكفل التشغيل وتعبئة الموارد البشرية الثرة التي توجد في المغرب.

وهذا ما يفرض الربط بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، أي أن تكون الديموقراطيا قادرة على أن تعطي حلولا. وكان يعول على الإصلاح السياسي أن يعطي تلك الحلول بحكم انه ينطوي على آليات تمكن من الشفافية في التسيير، وتعزز مراقبة تدبير الشأن العام، وتحد من الامتيازات المسروقة في غفلة من الرقابة.

ساد الاعتقاد بأن وقف الاستنزاف الذي مثله الاستفراد بالقطاع العام من طرف محظوظين وذويهم وزبنائهم وشركائهم، كفيل بأن يوجه جزءا هاما من الأموال العمومية إلى المرافق التي تشكو الخصاص. وكشف بمناسبة انكباب لجنة برلمانية على التقصي في أحوال مؤسستي القرض العقاري والسياحي والضمان الاجتماعي، عن الأساليب التي تكونت بها شريحة من المسيرين الفاسدين، طيلة بضعة عقود، وكيف أن سوء التدبير أدى إلى الخسارة مرتين، أولا حينما وقعت السرقات بأرقام خيالية في تينك المؤسستين، وثانيا حينما اضطرت الحكومة إلى ضخ مبالغ ذات بال من الأموال العمومية، لتقويم أوضاع المؤسستين وإنقاذهما من الإفلاس.

فعلاقة السياسي والاقتصادي هنا واضحة، يجب إيقاف النزيف، وإلحاق القصاص بالمسؤولين، وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني حتى يستطيع أن يعطي حلولا للمشاكل المزمنة من حيث البطالة وتدهور المرافق وتردي الإدارة والقضاء.

ولم تكن كافية الأعوام الخمسة التي مرت على حكومة التناوب التوافقي، لتصفية التركم السلبي، والانتقال إلى إعطاء الحلول لمشكلة البطالة والخصاص الكبير في المرافق الأساسية. يمكن القول إنه قد أمكن وقف الانزلاقات، وأمكن استصدار قوانين تؤطر الحياة الاقتصادية وفق قواعد جديدة تكفل الشفافية، وأمكن اتخاذ تدابير لتقليص البيروقراطيا بوضع قوانين لتحفيز الاستثمار، ولتكريس قواعد التنافسية، وضبط الصفقات العمومية، وغير ذلك كثير وهو يشكل في مجموعه ما هو بمثابة سجاد أحمر مفروش أمام المستثمر من المطار إلى الورشة.

لكن هذه القوانين والتدابير لم تعط مناصب شغل بالقدر الذي تتطلبه أوضاع عسيرة جدا تتمثل في استشراء البطالة بما في ذلك بطالة الجامعيين. إن المخطط الخماسي، وهو في الأصل متواضع في أهدافه، لا يزيد معدل النمو الذي يعد به على 5 في المائة، ومع ذلك لم تطبق كل برامجه، بسبب نقص التمويل.

نجحت الحكومة في تجنب «السكتة القلبية» التي كان قدحذر منها المغفور له الحسن الثاني. وانضبطت بحزم مع القواعد الملزمة باحترام المؤشرات الماكرواقتصادية. وأدت فواتير ثقيلة كانت حكومات سابقة قد تعهدت بها وتركت أداءها لمن يأتي بعدها. وها هي ذي قد أدت تلك الفواتير، وفي نفس الوقت تركت للحكومات التي ستخلفها رصيدا إيجابيا هو صندوق الحسن الثاني للتنمية، المتكون من ريع عمليات تفويت بعض مرافق القطاع العام إلى الخواص، وبذلك الريع ستمول في السنوات القادمة عمليات تنموية ستعزز الاقتصاد الوطني.

وسيكون على المؤسسات القادمة، من حكومة وبرلمان وأحزاب، وهذه هي قطب الرحى في الحياة السياسية المغربية، سيكون عليها أن تعطي أجوبة على الأسئلة الملحة المطروحة بشأن التشغيل، أي بالمحور الأساسي الذي يجب أن يتحرك حوله الاقتصاد الوطني، لكي يكون قادرا على إعطاء الحلول. إذ يجب أن يثتب أن الديموقراطيا تعطي حلولا

يجب أن يتخلص المغاربة من النقاش حول كيفية صنع المؤسسات، لينتقلوا إلى النقاش حول ما يجب أن تصنعه هذه المؤسسات. أي أنها يجب أن تعطي حلولا.

وعلى الأحزاب السياسية أن تنزل في الانتخابات التي ستجري في 27/9 بميثاق بينها وبين الناخبين، أي ببرامج انتخابية تحدد ما تلتزم به أمامهم من سياسات تهدف إلى توفير الشغل.

وعلى سبيل المثال فإن أمام المغاربة فرصة للالتحاق بموجة الاقتصاد الجديد كي يدخل المغرب فعلا وبجرأة وبعزم إلى مجتمع الإعلام والمعرفة. يريد المغاربة أن يعرفوا كيف ينتقلون إلى وتيرة أسرع للحاق بالاقتصاد الجديد، وذلك من خلال التعرف على الاعتمادات التي ستخصص للتكوين والتجهيز، ومن خلال الآجال التي سيتم بها ذلك، مع تعيين مصادر التمويل، والآليات التي ستحدث لتوسيع انتشار التقنيات الجديدة للإعلام. أي أن ذلك يجب أن يتم بوتيرة أخرى غير ما هو مضمن في البرنامج الوطني الحالي الذي يعد بإيصال تلك التقنيات إلى 5000 مدرسة في أفق عام .2010

إن برامج الأحزاب يجب أن تكف عن أن تكون سجلا للنوايا. فالناخب يعرف منذ الستينات، منذ المخطط الخماسي الأول، أن الضرورة تفرض استصلاح الأراضي الصالحة والقابلة للزراعة، وكذا حل معضلة الري ومكننة الزراعة. لكن ما لم يعرض حتى الآن على الناخبين هو برنامج مرقم ومبرمج في الزمن، يكون عقدة بين الناخب والحزب، عليه يتم التصويت، وعلى أساسه يحاسب.

لا يقبل الناخب في 2002 سجلا للنوايا ولا وعودا وردية، إنه يريد ميثاقا. ويجب أن يتركز الميثاق الانتخابي على التشغيل، وبالذات القطاعات الواعدة بالتشغيل الكثيف، وبإدماج المغرب في الاقتصاد العالمي.

بهذا تتحول الديموقراطيا إلى مصنع للحلول، ولا تبقى مختبرا لتشخيص المشاكل.