فلسفة العيش المشترك

TT

يذهب المفكر التونسي، فتحي التريكي، في دراسة هامة في العدد الاول من مجلة «افكار» الالكترونية الصادرة بتونس، الى ان الفلسفة اليوم، بحاجة الى وضع اسس نظرية جديدة لمقتضى العيش المشترك، اي نمط ترابط وتعايش ابناء البشرية في مرحلة سمتها تسارع وتيرة التوحد مع النكوص المتزايد الى الاحتماء بالهويات الخصوصية الضيقة، مما يترجم عمليا في انفجار ظواهر العنف والارهاب والتعصب.

ويندرج هذا الهم الذي ابرزه التريكي في ما عبرت عنه العديد من الفلسفات الراهنة من حاجة حيوية الى اعادة بناء المقاربة القيمية، بعد انحسار الارضية الميتافيزيقية التقليدية للممارسة الاتيقية، وانهيار الايديولوجيات التعبوية التي سعت لتعويضها.

فالحقل الفلسفي الغربي المعاصر يتميز بوضوح بعودة قوية للسؤال القيمي، بعد ان هيمنت عليه لعقود سابقة اشكالات بعيدة نسبيا عن هذا السؤال، مثل اشكالات اللغة والرغبة وعلاقة العقل بالسلطة.. وغيرها من الاشكالات التي ارتبطت بما بدا انه مسار جارف لتحطيم الانساق العقلانية ـ المعيارية، والاكتفاء بالغيرية المطلقة، واستبدادية الرغبة، والخروج عن كل مركزية بما فيها مركزية العقل الغربي. وهكذا نشهد، راهنا، من خلال كتابات راولس وتايلور وهابرماس وريكور، وغيرهم من اعلام الفكر الفلسفي المعاصر سعيا حثيثا الى اعادة بناء الصلة المحطمة بين عقلانية (لم تعد احادية غائية ومتعلقة وانما تواصلية مرنة) وشبكة معيارية (لا تفرض بالاكراه، وانما وفق متطلبات الحوار ومقتضيات العيش المشترك).

ويبقى السؤال المطروح: هل نجحت الفلسفات المذكورة في بلورة مثل هذا الاطار القيمي خارج حقل التأمل النظري، بل هل بامكان الفلسفة اليوم ـ وقد تغيرت آلياتها وتقلص نفوذها ـ ان تمد الثقافة الجماعية بمرجعية قيمية جديدة؟

فمن المعروف ان الفلسفة نشأت في ميدان الأغورا في المدينة اليونانية، اي في مجال الحوار العمومي الذي ميز الديمقراطية اليونانية، وكان همها الاول اخلاقيا قيميا، كما تبين كتابات الفيلسوف الاهم في الفلسفة اليونانية افلاطون، الذي تركزت كتاباته الحوارية على هم العدل، من منطلق الوعي بضرورة بناء ارضية وجودية صلبة للموقف القيمي الذي لا يمكن ان يتأسس الا على مقتضى الكونية الشاملة (في مقابل فردانية وذاتية الخطاب السوفسطائي).

واذا كان الفيلسوف في العصر اليوناني هو ابن المدينة ورمزها فإنه منذ عصور الانوار الاوروبية، تحول الى نموذج المفكر او المثقف، اي المعبر عن تطلعات الناس والمناضل من اجل حقوقهم وحرياتهم، ومن ثم تعززت مكانته في الحقل السياسي والمجتمعي، وغدا هو الذي يصوغ الانساق القيمية الجديدة التي هي الايديولوجيات التعبوية الجماعية.

وقد كانت انتفاضة مايو 1968 التي عرفتها ساحات غربية عديدة (خصوصا في فرنسا) آخر مظهر من مظاهر فاعلية الفلسفة في الحقل المجتمعي، ذلك ان انماطا من الانفصام بين الفلسفة وباقي الفضاءات المعرفية والمجتمعية قد انعكست سلبيا على حضورها العيني الفعال.

ومن اوجه هذا الانفصام القطيعة المتزايدة بين الفلسفة والعلوم الدقيقة (التجريبية)، بعد ان غدا من العصي على المباحث الابستمولوجية ملاحقة التطورات العلمية الهائلة التي غيرت شكل العالم بما فيه التوازنات المعرفية نفسها. واذا كانت كل فلسفة تستبطن علم عصرها ـ كما يقول ديزانتي ـ فإن القول الفلسفي فقد اهم معنى من مصادر استيحائه.

وكما انفصمت العلاقة بين الفلسفة والعلم، تزايدت الهوة بين الفلسفة والسياسة، اثر انغلاق الحقل السياسي الذي غدا محصورا في نخبة محترفة تصنعها مراكز اعداد معروفة، في ما وراء الالوان الحزبية الخادعة (مثل الجيش ووكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة الامريكية، والمدرسة الادارية بفرنسا..).

واذا كانت الصحافة الحديثة قد ارتبطت عضويا بالمناخ الفلسفي، منذ عصر الانوار، فكان كانط وفولتير وهيغل وماركس.. كتابا مرموقين اختاروا، احيانا كثيرة، اعمدة الصحف للتعبير عن افكارهم الرائدة، فإن هذه الصفحة قد انتهت تقريبا مع جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت مقالة لسارتر او ماركوز تهز الرأي العام، وغدت مقالات كبار الفلاسفة مقصية في صفحات الثقافة التي لا يطل عليها سوى نخبة قليلة من محترفي الثقافة الاكاديمية.

ومع ذلك، فإن الحاجة اليوم الى الفلسفة تبدو اكبر من اي وقت مضى لمواجهة المخاطر الرهيبة المنجرة عن نضوب القاعدة القيمية للعيش الانساني المشترك.

فالفلسفة تظل ـ على الرغم من تحولاتها ـ المصدر الاساس لانتاج المفاهيم وارساء الاسس النظرية، حتى ولو كانت دوما تتغذى من خارجها (من الدين او العلم او الايديولوجيا).

وبالعودة الى مقالة التريكي، التي يقترح علينا فيها مقولة تعود للفيلسوف العربي المشهور الفارابي هي مقولة التعقل، نخلص الى ان إعادة تأسيس الارضية القيمية لعالم اليوم لن تكون بفرض مركزية قيمية على غرار الخطاب التحديثي التقليدي او مقولات الاثنوغرافيا الاستعمارية، وانما لبلورة الاطار التواصلي بين الثقافات والشبكات القيمية الانسانية، وفق مقتضيات التسامح، و«المؤانسة» (حسب تعبير ابي حيان التوحيدي). والمنطلق في هذه الاتيقا البديلة هو الانتماء المشترك والتكامل العضوي بين ابناء البشرية، في ما وراء تنوعهم القومي والحضاري والديني.