التبعية المدمرة للسياسة الأميركية

TT

على عتبات الذكرى السنوية الاولى لاحداث 11 سبتمبر، يبدو جلياً ان النهج الاميركي الرسمي قد نجح في الحد من التأييد والتفهم والعطف الدولي، التي سادت جميعها، شهوراً بعد الكارثة الارهابية التي حلت بالولايات المتحدة.

في البداية نجح العالم في امتصاص رغبة الانتقام الاميركي، وقننها ضد عدو توافق الجميع انه في افغانستان، ولكن الامور افلتت بعد ذلك من عقالها، اذ لم يكتمل الاتفاق حول بناء افغانستان الجديدة، كما ان الادارة الاميركية اصبحت بحاجة الى ضحايا جدد حتى لو لم تكن لهم علاقة باحداث سبتمبر الماضي، وهذا بدوره يهدد السلام العالمي، ودفع غالبية دول العالم للتنصل من النهج الاميركي التدميري والذي يضر بالاصدقاء ايضاً.

للانصاف، تجب الاشارة الى حقيقة ان الإضرار الاميركي بالذات وبالاصدقاء لا يقترن فقط بسياسة ونهج هذه الادارة، وانما اصبح ظاهرة في مرحلة الحرب الباردة، وتحول الى حقيقة ساطعة في العقد الاخير. الدولة الوحيدة التي نجت من التهويش او العض حتى الان هي اسرائيل. وللانصاف ايضاً، يجب تذكر ان الولايات المتحدة كانت تجيد المساعدة والصداقة للمستسلمين لها، كما حدث في حالتي المانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، اذ حصلت مبدئياً على نسبة الدعم كبقية دول اوروبا الحليفة لواشنطن انذاك. لقد تبنت اوروبا الغربية واليابان النظام الديمقراطي فأخذت الدعم واصبحت حليفة، واحتفظ حليف الحرب السوفياتي بنظامه الاشتراكي فأصبح في صف الخصوم بعد رفقة السلاح مع اميركا ضد النازية والفاشية.

في مرحلة القوتين العظميين، تمسكت واشنطن بالحلفاء في الغرب، وسيرت شأنها معهم بالتفاهم حيناً وبالضغط والتهديد احياناً. الى جانب ذلك، سعت واشنطن لامتصاص الدول المحايدة او القريبة من النهج السوفياتي، والى ضرب الدول اليسارية القريبة جغرافياً من الولايات المتحدة، ومعاداة الدول الاشتراكية في العالم الثالث، وتسليط الدول الحليفة ضدها. ضمن هذه السياسة تخلت واشنطن عن تجربة دمقرطة الحلفاء والاصدقاء التي مارستها مع اوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، واصبحت تؤيد أي نظام ديكتاتوري او عسكري او انقلابي، طالما انه ضد الشيوعية والاشتراكية. لقد شملت هذه التجربة كل اميركا اللاتينية والعديد من دول العالم الثالث الى درجة ترسخ معها الشعور الشعبي العالمي بظلامية النهج الاميركي.

بقيت دول اميركا اللاتينية التابعة لواشنطن متخلفة في النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، على عكس حلفاء واشنطن بعد الحرب العالمية. الدول التي دخلت في حرب مع واشنطن، او ضدها، واجهت مصيرا مشابها من التعاسة والفقر. فيتنام مثلاً، دمر شمالها اليساري وانهزم جنوبها الاميركي، ثم ترك الجميع لحالهم، لان الولايات المتحدة نفسها كانت بحاجة لمن يلعق جراحها. في كوبا، التي لا تهدد منذ عقود أي شعرة اميركية، يستمر التجويع والحصار لشعب بأكمله من دون أي نقاش جاد في الساحة الاميركية حتى الان. دول المعسكر الاشتراكي، التي شجعها الغرب ليلا نهارا على الثورة ضد النظام السوفياتي، تركت لحالها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وهناك عشرات الامثلة على النهج الاميركي المصلحي والفوضوي الضار بالذات وبالغير.

بعد 11 سبتمبر وحاجة واشنطن للتأييد الدولي، سهل عليها التقرب من موسكو وبكين والاتحاد الاوروبي، ووجه الرئيس وصيته لبقية دول العالم: اما ان تكون معنا او فأنت ضدنا! انهال مديح واشنطن على روسيا ورئيسها حتى تغلغلت السياسة الاميركية في اسيا الوسطي والجمهوريات السوفياتية السابقة تمهيداً لضرب واحتلال افغانستان. الان عاد النقد الاميركي للروس بحجة انهم يبنون مفاعلات لايران ويعقدون صفقات مع العراق، أي بمعنى اخر، لان لموسكو سياسة مستقلة ولا تطيع واشنطن في طريق الانتحار. خلال عام واحد، عادت الضغوط الاميركية ايضاً الى دول الاتحاد الاوروبي الذي تمرد على الطاعة العمياء للنهج الاميركي.

الجدير بالذكر حول خلفية التضارب الاميركي ـ الاوروبي الحالي، ان حكومات ومراكز الفكر الاوروبية لا ترى في نظام العراق أي داعم للارهاب الدولي، رغم قدرات النظام سابقا وحالياً في ذلك المجال. يعني هذا انه في ظل غياب أي قرار دولي واضح ضد العراق، فإن ضرب شعبه سيؤدي الى الارهاب المضاد، وبالتالي تهديد الامن الاوروبي والدولي وتعقيد العلاقات العربية ـ الغربية. الى جانب ذلك عاد الشارع الاوروبي يتلمس ظلامية السياسة الاميركية، واصبح كل حزب او زعيم يريد ان يُنتخب، يبتعد عن النهج الاميركي بوضوح، الى درجة ان كل احزاب المانيا، المقدمة على انتخابات برلمانية هذا الشهر، اعلنت انها ضد مهاجمة اميركا للعراق!

عندما حصل التوافق الدولي على ضرب افغانستان، لانهاء نظام الطالبان وتدمير تنظيم القاعدة المتهم بعمليات ارهابية، اقر الجميع بضرورة بناء البلاد من جديد سياسياً واقتصادياً وامنياً، وتجنب المظالم والضرر بالمدنيين. النتيجة ان مخالفات واضحة حصلت في مجال حقوق الانسان والمذابح الجماعية، والقصف الاميركي القاتل للمدنيين بالخطأ ولكن بدون اعتذار او تعويض لذويهم. حصلت البلاد على وعد بخمسة مليارات دولار في خمس سنوات، والنتيجة الغنية عن الذكر، كانت ان حطت المجاعة اطنابها في كل البلاد اكثر من أي وقت مضى، كون الرجال في تناقص، واللاجئون لم يعودوا، والارض لم تفلح، وباع الناس مواشيهم، وهناك مناطق تشهد بيع العائلات لبناتها الصغايرات بعد ان باعت اعمدة الخيام. هذه الصورة من التخلي عن الوعود والالتزامات، تشبه مبدئياً ما حصل في فيتنام الجنوبية بعد هزيمة القوات الاميركية هناك. لا يمكن هنا طبعاً نسيان توقيع اتفاقية الغاز ليمر عبر افغانستان في خدمة المصالح الاميركية. رغم هذا التقصير الاجرامي تجاه الافغان، تريد الادارة الاميركية من العالم ان يصدقها ويؤيدها في تغيير النظام في بغداد وتوزيع الوعود بنظام ديمقراطي وانتعاش اقتصادي هناك، بعد ازالة الرئيس صدام وتنصيب غيره على غرار افغانستان.

بفضل اللوبي الصهيوني ونمو تأثير اليمين الاميركي على ادارة الرئيس بوش، فان المنطقة العربية هي الاكثر تأثراً من تقلبات السياسة الاميركية سابقاً، والآن ايضاً، بعد ان وصل الامر الى حملات ضد المملكة العربية السعودية ومصر. عموماً يمكن القول ان سياسة الابيض والاسود الاميركية اضرت دوماً بالافكار العلمانية في المنطقة، اذ ايدت واشنطن، في السابق، المنظمات الاصولية للجهاد ضد الشيوعية في افغانستان وغيرها، على غرار تأييدها للانظمة العسكرية في اميركا اللاتينية، ثم ها هي تنقلب مجددا على التطرف الاصولي وتحاربه كما تحارب الاماني الوطنية العربية، وتضر بالوسطية والعلمانية المحسوبة على النهج الغربي، ولا يهم السياسة الاميركية غير تحقيق انتصارات تلفزيونية لاشباع رغبة الانتقام، واعادة انتخاب الرئيس الذي يخدم في حقيقة الامر أجندات قد لا يكون ملماً بتفاصيلها.

في بحر عام واحد خُدعت افغانستان تماماً وبدون جدال، وخانت واشنطن كل اصدقائها القدامى في المنطقة، بداية من باكستان وحتى المغرب، وخذلت الاصدقاء الجدد وفي مقدمتهم الروس، ولم تنفذ هذه الادارة أي وعود قطعتها على نفسها في قضية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، واسودت صورة البيت الابيض عبر العالم على غرار الحقبة الفيتنامية.