هذا ليس عدلا .. عد إلى موطنك الأصلي

TT

كانت الطائرة مزدحمة بالمهاجرين الروس، وإلى جواري جلس شاب روسي. لم يكن كثير الحركة، بل إنه لم يكن يتنفس. ويبدو انها كانت تجربته الاولى في السفر جوا من أمستردام إلى تل أبيب، أو ربما إلى عالم جديد بالنسبة له؟

أراد توجيه الشكر لمضيفة الطيران عندما عرضت عليه شيئا من الشراب، فقال لها «شكرا» باللغة الروسية، وقد تطوعت لإكمال الجملة نيابة عنه، حيث بدأت محادثتنا بعد ذلك.

في الواقع، كنت أنا التي بدأت الحديث، وقررت كسر الحواجز وتجاوز الصمت. فقد كان في الثامنة عشرة من عمره، وهو متوجه إلى إسرائيل بدون أن يعلم موقعها الجغرافي على الخارطة، كما إنه لا يعلم عدد اليهود هناك؟ وقد قالوا له إن أسلافه الغابرين لوالدته قد يكونون يهودا؟، وهو لا يتحدث لغة أخرى غير الروسية، التي كانت يجد حرجا في استخدامها.

لم يكن قد استهل حياته العملية بعد، ولم يكن يعرف هويته؟ كما لم يكن مدركا لما سيفعله في إسرائيل، ومع ذلك فها هو قادم اليها.

هذا الشاب اسمه فافا، وهو في عمر ابنتي، التي اضطررت إلى أن أقطع مشاركتي في مؤتمر بهولندا لحضور حفل تخرجها من المدرسة الثانوية. فهذا حفل انتظرته بفارغ الصبر والصمت طوال الأعوام الثمانية عشر الماضية.

ثمانية عشر عاما قدمت خلالها ما أستطيع من أجل تعليم ابنتي وصحتها وسلامتها ورعايتها. وحتى أيام قليلة مضت لم أكن واثقة مما إذا كان يوم الاحتفال بالتخرج سيأتي، على اعتبار أننا جميعا في مدينة رام الله نعيش في ظل حظر تجول شامل منذ ما يقرب من شهر، نعاني من القصف ليلا ونهارا، ونقبع في منازلنا قسرا من دون أن نعلم متى سينتهي هذا الوضع الرهيب؟

كانت ابنتي دانا قلقلة بشدة بشأن مستقبلها، وبشأن نتائج اختباراتها الدولية، وما إذا كانت ستنجح، لقد كنا جميعا قلقين للغاية، ولا حيلة لنا، غير واثقين مما قد يحدث في اليوم التالي؟ حتى أننا في بعض اللحظات اعتقدنا بأننا جميعا قد نموت، فمن ذا الذي كان يتوقع ما يفعله شارون الآن؟ وما حدث في جنين ونابلس قد يحدث في رام الله أيضا، من ذا الذي سيضمن عدم حدوث ذلك؟

كنا نقول إن دانا ستتخرج غدا بعد اجتياز اختباراتها بنجاح، بعدما كانت قد حصلت على منحة دراسية لإكمال تعليمها في الولايات المتحدة (من مدرستها المحبوبة في كواكر، حيث كانت قد أمضت هناك 14 عاما طويلة).

لكن لماذا تبدو مشاعري مكتئبة، بدلا من أكون سعيدة للغاية، وماذا صنع بي هذا الفتى الروسي؟ ولماذا لا أبدو مستعدة لقبوله؟ لأنه قادم إلى بلدي لإحداث تغيير في طبيعته السكانية.

ولماذا لا تبدو مشاعري شبيهة بتلك التي تملكتني، منذ أيام قليلة مضت عندما التقيت بعدد من الجنود الإسرائيليين السابقين في القدس بعد مشاركتنا في برنامج تلفزيوني مسائي قدمته قناة إي بي سي. ففي ذلك اليوم حدثني الجنود السابقون عن تجربتهم الحزينة في الجيش بقطاع غزة. كانوا يشعرون بمرارة قصوى لتلك التجربة، ويعتقدون ان ما تفعله حكومتهم بالفلسطينيين يعد جرائم حرب. وكانت لديهم قناعة بأنهم لم يشاركوا في أعمال القتل على الأقل، واعترفوا بأنهم للأسف يشكلون أقلية، لكنهم رأوا انه كان عليهم التعبير عن رأيهم علنا. وقد جرت بيننا محادثات إيجابية، شعرنا خلالها بأننا نتقبل بعضنا البعض.

لماذا خالجني ذلك الشعور الطيب الآمن تجاه أولئك الفتية، خاصة ذلك الذي طلب مني الإذن لكي يناديني : أماه، لقد شعرت بأنه قريب مني للغاية، وأنه لا حواجز بيننا. وأحسست بما يمكن أن يشعر به البشر. رأيت في أولئك الفتية الإسرائيليين فقط الجانب الإنساني المسالم اليافع. وشعرت بأنني أتفق مع أبنائي، بأننا نحن الفلسطينيين، والإسرائيليين نستطيع العيش بسلام وكرامة إلى جانب بعضنا البعض، مهما كان الأمر.

لكن لماذا لا أستطيع قبول هذا الفافا القادم من روسيا؟ أعتقد انني أعرف بالتحديد لماذا. وأنا واثقة من مشاعري. ويجب أن أطرحها عليه.

قلت له: هل تعلم يا فافا بأنه ليس من العدل أن تأتي إلى بلادي، وأنت لا تعرف شيئا عن هذه الأرض، وعن ثقافتها ولغتها. ومع ذلك فغدا ستكون أنت صاحب الحق في العيش فوق أرضي، تشرب مياه ابنتي، وتصادر حديقة منزلي، وتقصف منزلي، وتدمر مدرسة ابنتي، وسأكون أنا وابنتي من ضحايا عدوانك.

غدا ربما تصبح جنديا قد يقتل إبنتي الغالية دانا، تحت أي مبرر وبأي شكل. وغدا قد يطلبون منك الوقوف عند نقطة تفتيش حيث قد تمنعني من الوصول إلى مرضاي،

وغدا يا فافا قد تصبح مغتصبا، ولن تعود قادرا على فهم أو توضيح أسباب ما يحدث؟

عزيزي فافا، لا أعتقد انه من العدل أو الإنصاف، أن تأتي الينا. عليك فقط أن تعود إلى موطنك الأصلي، وكما يقولون باللغة الروسية: «فيزدي شوروشو، نو دوما لوشيه»، أي لا يوجد مكان أفضل من الوطن.

* مديرة مركز الطفل الفلسطيني ـ رام الله