يعلون يريد أن يهزم الفلسطينيين

TT

أكد استطلاع للرأي أجرته مؤسسات بحثية مستقلة، أن أكثر من ثمانين في المائة من الفلسطينيين يؤيدون النضال الشعبي السلمي وليس النضال العسكري، لانتزاع الحرية والاستقلال.

ولا شك أن دراسة الأساس الذي اعتمد في هذا الاستطلاع وكيفية استخلاص رأي الفلسطينيين من خلال الأسئلة التي طرحت على النموذج المستخدم، تشير الى أن هذا الرأي لا يتعارض مع قناعة الفلسطينيين بأن لهم الحق في مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل كما نص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة.

إلا أن الفلسطينيين (الغالبية الكبيرة)، ترى أن الظروف الراهنة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، ترجح لديهم هذا الأسلوب اللاعنفي في النضال ومقاومة الاحتلال لإنهائه ونيل حريتهم واستقلالهم.

وتدعم نتائج هذا الاستطلاع الآراء والمواقف التي سبق أن كتبنا حولها (خاصة في المقال الذي نشرته «الشرق الأوسط» تحت عنوان أين أخطأنا)، والذي انتقدت فيه عسكرة الانتفاضة والعمليات الانتحارية التي تزود شارون وحكومته بالمادة اللازمة لتشويه الحقائق وإظهار إسرائيل ضحية الإرهاب الفلسطيني، بينما الحقيقة الصارخة هي أن الشعب الفلسطيني بأكمله هو ضحية لإرهاب الدولة الاسرائيلية المنظم.

كما أظهرت نتائج هذا الاستطلاع صحة الدعوة التي وجهتها الهيئة التأسيسية لحزب فلسطين الديمقراطي (حركة فلسطين للبناء والتطوير) للفلسطينيات والفلسطينيين بالعودة لأسلوب المقاومة الشعبي والمدني (السلمي) وإشعال الضفة والقطاع بالمظاهرات والاضطرابات ومقاطعة البضائع الإسرائيلية. والعودة لهذا الأسلوب الكفاحي لن يوقف (بطبيعة الحال) شارون وحكومته ومؤسسته العسكرية عن الاستمرار في شن العدوان وارتكاب جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، لكنه سيساهم إلى حد كبير في إظهار هذه الجرائم التي ترتكب ضد شعب بأكمله، وفي إعادة بناء صورة حقيقية للواقع في الأراضي الفلسطينية على صعيد الرأي العام العالمي، ستساهم في مراكمة سريعة لهذه الحقائق بحيث تبين للرأي العام العالمي أن الوحش الإرهابي هو الاحتلال، وأن ما يطالب به الفلسطينيون هو حق أساسي من حقوقهم كشعب يريد الحرية والاستقلال.

يجدر بنا أن نشير هنا إلى أن الفئات والتنظيمات التي ارتكبت أخطاء استراتيجية (لعسكرة الانتفاضة والقيام بعمليات تفجيرية ضد المدنيين داخل إسرائيل) ترتكب الآن أخطاء تكتيكية لا تقل فداحة في ما تلحقه بالشعب الفلسطيني من خسارة، عن الاخطاء الاستراتيجية. فبدلا من أن نحكّم العقل والرؤية الثاقبة ونستثمر الاتفاق العام على وقف كافة العمليات ضد المدنيين الإسرائيليين، لتقوي من الثقل السياسي للسلطة الوطنية الفلسطينية، بإظهار قدرتها على الاتفاق، وعلى ضبط الأمور، قامت بتسليم هذا الرصيد للحكومة الإسرائيلية. فاعتبر شارون، ووزراؤه المتطرفون العنصريون، ان الاستمرار في الاغتيالات ونسف بيوت العائلات التي ينتمي لها الشباب (الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الوطن) والإجراءات الإسرائيلية القمعية والحصار الخانق، هذا الاستمرار هو الذي أدى إلى وقف هذه العمليات. نحن مع وقف هذه العمليات، بدون تردد، لكن مع الاستخدام التكتيكي لهذه السياسة، بحيث يظهر جلياً للعالم أن التوجه نحو المفاوضات السياسية هو الذي أقنع المنظمات بالتجاوب مع دعوة الرئيس ياسر عرفات لوقف العمليات وليس البطش والقمع الإسرائيلي.

وينطبق هذا الأمر إلى حد كبير على اطلاق قذائف بدائية (تسميها إسرائيل قذائف هاون) لم ولن توقع أي خسائر في المستعمرات التي بنيت على ارض فلسطينية اغتصبت، بل توقع ضررا بالفلسطينيين من خلال ما تزوده اطلاق هذه القذائف البدائية، من مبررات لقوات الاحتلال لقتل المدنيين وهدم البيوت في قطاع غزة.

ان الحكمة والإصرار على متابعة الكفاح لنيل الحرية والاستقلال يقتضيان رؤية واضحة للمسار المستقبلي، بحيث تأتي التحركات والخطوات الفلسطينية متكاملة، ومنسجمة مع تحقيق الأهداف الوطنية، وحشر حكومة اسرائيل في زاويتها الحقيقية، زاوية المحتل بقوة السلاح لاراضي شعب آخر، وعليه فإن على المجتمع الدولي ان يضع الآلية اللازمة لتطبيق قرارات الشرعية الدولية وإنهاء هذا الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على الارض التي احتلتها اسرائيل عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية. يشعر الفلسطينيون بقلق شديد مما يدور ويجري في فلسطين ومنطقة الشرق الاوسط عامة، كما يشعر الفلسطينيون بنوع من الاحباط والقنوط، مما يحمله المستقبل لهم وللمنطقة، على ضوء متابعتهم لموقف الولايات المتحدة المنحاز كلياً لصالح اسرائيل، والذي يقرع طبول الحرب ضد العراق والعرب. ويرى الفلسطينيون، إجمالا، انهم تركوا وحدهم فريسة لآلة الحرب الصهيونية ولمجرمي الحرب الذين يرتكبون يوميا جرائم بحقهم، هي بكل المعايير جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، يعاقب عليها القانون الدولي وتحرمها الاتفاقات والمعاهدات الدولية، فمدن الفلسطينيين وقراهم ومخيماتهم هي الآن مناطق مستباحة لقوات الاحتلال، (سواء بدبابات وطائرات وآليات وجنود أم بدونها). فعلى سبيل المثال، تعلن قوات الاحتلال عن رفع منع التجول في مدن كالخليل، ورام الله، وغيرهما، وتحدد الساعات التي يسمح فيها للفلسطينيين بالتجول لقضاء حاجياتهم والقيام بأعمالهم ولا تشاهد خلال ذلك (أو قبله أو بعده) دبابات وطائرات وجنود، كما كنت تشاهد من قبل. ورغم غياب الآليات والجنود من الشوارع فإن الفلسطينيين يعودون لبيوتهم (للحصار والمنع) في الوقت المعلن، خشية ان تطلق سيارة جيب عسكرية اسرائيلية النار عليهم.

وتستبيح القوات الاحتلالية كل الارض الفلسطينية، عبر مداهمات للمدن والقرى لاغتيال أحد النشطاء أو لاعتقال بالعشرات لمواطنين، تطلق عليهم اسرائيل دائما لقب مطلوبين.

ولا يحرك العالم ساكنا إزاء هذه الجرائم، وكأن الصرخة الفلسطينية تغيب في طيات صداها، عربياً وإقليمياً ودولياً.

استقبلت حكومة شارون نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد بقتل خمسة عشر مدنيا فلسطينيا نصفهم من الأطفال واليافعين خلال الساعات الثماني والاربعين التي قضاها ساترفيلد في اسرائيل. ولم يسمع الفلسطينيون أي تعليق أميركي على هذه الجرائم. ولا يتوقع أحد من الولايات المتحدة أن تحرك ساكنا، فقد حشر شارون اسرائيل في خانة واحدة مع الولايات المتحدة في قرع طبول الحرب ضد العراق. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تؤيد ضرب العراق وتحث الولايات المتحدة على القيام بذلك قبل نهاية هذا العام. ويستغل شارون هذا الموقف ويشتري به صمت الادارة الأميركية على جرائم قوات الاحتلال ويشتري ايضا جمود حركة الادارة الاميركية في الشرق الاوسط. فوق هذا وذاك يشتري شارون ضغط الولايات المتحدة على أوروبا والأمم المتحدة وروسيا لتجميد أو تهميش دور الهيئة الرباعية المكلفة تطبيق ورقة تينيت وميتشل وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ويرى شارون ومستشاروه وضباطه العسكريون والأمنيون، ان مثل هذا الوضع والاستمرار في شن العدوان ضد الشعب الفلسطيني والحيلولة دون اعادة بناء ما هدمته قذائفهم، هو افضل وضع لتحطيم معنويات وطموح الشعب الفلسطيني والقضاء على مشروعهم الوطني. ليس هذا فحسب، بل يرون أن الاستمرار في هذا الوضع سوف يسبب انهياراً متدرجا للسلطة ومؤسساتها بما فيها المؤسسة التشريعية. فقد أعلن شارون دون مراوغة، انه لن يسمح للمجلس التشريعي بعقد جلسة لطرح الثقة بالحكومة الجديدة. السبب انه لا يريد للمؤسسة التشريعية، ان تكرس حكومة (بغض النظر عن اعضائها) يرأسها ياسر عرفات، وهذا دليل على استمرار شارون وحكومته في تنفيذ مخططهم لتدمير السلطة والقضاء على المشروع الوطني الفلسطيني.

ولا يقل أهمية عن موقف شارون هذا، ما أعلنه شارون من تأييد للموقف العنصري الارهابي الذي أعلنه الجنرال يعلون رئيس اركان الجيش الاسرائيلي الذي وصف فيه الشعب الفلسطيني بالسرطان الذي يجب القضاء عليه قبل ان ينتشر. وتأكيده انه كرئيس اركان مصمم على إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين (وكأنما هنالك حرب بين جيشين وليس هناك عدوان من طرف عسكري إرهابي إسرائيلي ضد شعب أعزل من الجيش والسلاح).

المؤسف هو ان موقف يعلون (المدجج بدعم رئيس وزراء اسرائيل شارون) رغم خطورته وعنصريته لم يلق ردود فعل كالتي يجب ان تصدر في مثل هذه الحالات عن القوى والحكومات الديمقراطية والتي تنص دساتيرها على مناهضة العنصرية، ومعاقبة القوى العسكرية المحتلة التي ترتكب جرائم الحرب وجرائم ضد الشعوب والانسانية. فأي نظرة موضوعية لخريطة الشرق الأوسط، تظهر بوضوح ان عدم الاستقرار، والتوتر والإرهاب، له مصدر رئيسي واحد وهو الاحتلال الاسرائيلي للارض الفلسطينية والعربية.

وان قادة اسرائيل الحاليين (سياسيين وعسكريين) ينفذون مخططا تدميريا لتغييب الاستقرار في الشرق الاوسط وربما لتغيير خريطته الجيوسياسية لخدمة اهدافهم العنصرية واطماعهم التوسعية.

وكان شارون قد أبلغ كبار ضباطه ومستشاريه قبل شن عدوان السور الواقي انه سيخوض اخر معركة ضد الفلسطينيين. ولم يكن في ذهن شارون سوى هدف واحد للمعركة الأخيرة مع الفلسطينيين وهو القضاء على مشروعه الوطني وخلق ظروف تصبح معها رؤية الرئيس بوش لإقامة الدولة الفلسطينية غير قابلة للتطبيق او للتنفيذ، إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين.. هذا هو هدف شارون ويعلون، هدف الحكومة العنصرية في اسرائيل والجنرالات الذين يحكمون اسرائيل من خلف شارون ويتحكمون مستقبل الاسرائيليين والمنطقة، من خلال استخدامهم الآلة العسكرية الارهابية الى أقصى حد ممكن.

عن أي هزيمة يتحدث شارون ويعلون؟

لقد هزم الفلسطينيون على يد التآمر الدولي والرسمي العربي قبل خمسة عقود. لقد خانتهم بريطانيا التي انتدبت لتحضيرهم للاستقلال.. وهزمتهم الولايات المتحدة بالضغط على دول العالم لاتخاذ قرار تقسيم فلسطين. وهزمتهم الانظمة العربية (آنذاك) التي ادخلت جيوشها لتضمن ضياع الارض الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين الى لاجئين (يمكّن جولدا مائير) أن تقول مع هذه الحالة ومع هذا الوضع: لا يوجد شعب فلسطيني (مذكرات جولدا مائير).

والفلسطينيون لا يخوضون معركة لينتصروا أو يهزموا فيها، انهم ينتفضون على الظلم والقهر والفقر، انهم يرفضون مصادرة اراضيهم واقامة مستعمرات عليها، انهم يريدون ان يستعيدوا انسانيتهم وحقوقهم كبشر ويريدون ان يتمتعوا (أسوة بكافة الشعوب) باستقلالهم وديمقراطيتهم وحق اطفالهم في العلم والحياة والحب والسلام.

هل يظن شارون ويعلون ان الوضع الراهن في الضفة الغربية وقطاع غزة (بعد أن أعادت اسرائيل احتلالها عسكريا واخضعتها للحصار ومنع التجول بالقوة العسكرية) هو وضع يوحي بانتصار الفلسطينيين. انها هزيمة القوة العسكرية الظالمة والمستعمرة والمستبدة على شعب اعزل وعلى ارضه التي احتلت منذ عام 1967.

لذلك نقول للعنصريين (السياسيين والعسكريين) الذين يحكمون اسرائيل: لا مجال لهزيمة الشعب الفلسطيني، فقد هزم قبل خمسة عقود بالمعايير الكلاسيكية العسكرية للهزيمة، لكن هزيمته العسكرية، ومطالبته بحريته واستمرار الكفاح الشعبي لنيل هذه الحرية هي هزيمة اسرائيل السياسية. فمهما اضاف شارون ويعلون لآلة الحرب الاسرائيلية، فلن يحقق عسكرياً اكثر مما حقق، اذ لا آلة عسكرية فلسطينية لتدميرها كما جرى في آلات الدول العربية العسكرية، ولا مزيد من الارض الفلسطينية لاحتلالها فهي محتلة بكاملها، انما هنالك شعب يريد الحرية والمطالبة بالحرية والاستقلال لا يمكن أن توقفها آلة الحرب الاسرائيلية.

شارون ويعلون يجران الاسرائيليين إلى كارثة، لأن الكارثة التي يسعيان لها الآن في الشرق الاوسط، ستكون كارثة على الاسرائيليين كما هي كارثة على المنطقة.

فالفلسطينيون لا يوجد لديهم ما يخسرونه أكثر مما خسروا، ولديهم الفرصة التاريخية الآن ليخسروا القيود التي كبلهم بها الاحتلال الاسرائيلي، لديهم الفرصة لنيل الحرية والاستقلال.

ولقد ولّت الأيام التي كانت ترتكب فيها القوى الاحتلالية الظالمة مذابح لشعوب بأكملها، وعلة شارون ويعلون أن يقرءا بعضا من صفحات التاريخ.