هل العراق يوغوسلافيا أخرى في منطقة الشرق الأوسط؟

TT

مع اشتداد حدة الجدل الدائر بشأن خطط الادارة الأميركية المتعلقة بالعراق، هناك سؤال بحاجة الى اجابة، وهو: هل يعي الأميركيون كل شيء عن العراق الى الحد الذي يمكنهم من تبني سياسة واضحة بشأنه؟

فبعض ماتعتقد الادارة الأميركية انها تعرفه عن العراق مصدره جماعات عراقية تعيش في المنفى والى حد كبير مبعثه كراهية صدام حسين، أو تطلعات شخصية أو السعي للمال، أو جميع هذه الدوافع معا. وسيكون الرئيس جورج دبليو بوش ساذجا لو اعتمد في سياسته على مثل هذه الأسس الواهية.

والبعض الآخر من المعلومات المتعلقة بالعراق ناتج عن اطروحات غير مؤكدة تبناها من يدعون الخبرة في الشؤون العراقية. وهذه الأطروحات هي الأخرى قد تضلل ادارة بوش.

آخر ما طرح بهذا الخصوص طالعتنا به جريدة «نيويورك تايمز» من خلال مقال لتوماس فريدمان، نشرت «الشرق الأوسط» ترجمة له في عددها الصادر يوم الأحد الماضي. كعادته في الكتابة، يقول فريدمان انه اذا ما قررت الولايات المتحدة غزو العراق والسيطرة عليه فانها «ستمتلكه»، وبالتالي سيكون عليها اعداد نفسها للالتزام بـ«اعادة بنائه كدولة».

ويشكك فريدمان في أساس بناء الدولة العراقية واصفا العراق بأنه دولة مصطنعة أقامها البريطانيون. والفكرة هي ان العراق، وقد تأسسس حديثا، لم يتسن له تطوير حالة من الاحساس بالدولة.

وهذا يمكن أن ينطبق على العديد من الدول الأخرى. واذا ما تأملنا حال منظمة الأمم المتحدة فسنجد ان عدد الدول الأعضاء فيها بلغ 200 دولة. من بينها فقط 53 دولة كانت موجودة عندما تأسست المنظمة الدولية خلال عام 1945 (وكان العراق من بينها). هل يعني هذا ان: ما يقرب من ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تستحق أن يسيطر عليها حكام مثل صدام حسين؟

فالولايات المتحدة بحد ذاتها تعد دولة حديثة التأسيس مقارنة بدول عريقة أخرى كفرنسا وبريطانيا وايران. وماذا بشأن اسرائيل، التي تأسست بعد 27 عاما من تأسيس العراق؟

وحتى في أوروبا، هناك قلة فقط من الدول، التي اعتبرها فريدمان حيوية لحياة متمدنة في أي بلد، لديها تاريخ يعود لقرون عديدة. فالدولة الألمانية تأسست عام 1866، وايطاليا تأسست في عام 1870، والنرويج في عام .1905 وظهرت 17 دولة أوروبية الى الوجود بعد الحرب العالمية الأولى، تماما كما هو حال العراق، وكما حدث مع ست دول أخرى قامت في عام 1990 على اثر انهيار الأمبراطورية السوفياتية.

فريدمان الذي لم يزر العراق أبدا يرى في تنوع ذلك البلد الديني والعرقي واللغوي صورة شرق أوسطية ليوغوسلافيا. لكن لو ان التنوع يجعل من بلد ما يوغوسلافيا أخرى، فحينها سيكون لدينا عشرات الدول من نفس النوع بأحجام مختلفة في أنحاء العالم، ابتداء بالهند ومرورا بروسيا وسويسرا وحتى الولايات المتحدة.

وحقيقة ان وضع العراق الحالي هو نتيجة لتعاقب الامبراطوريات وانه لم ينشا كدولة مستقلة ذاتيا، لا تعني انه بلد مقفر وأرض بشعة، كما يلمح فريدمان. وفي الواقع، فان تلك الأرض، ولقرون عديدة، مثلت قلبا نابضا لحضارات عظيمة، بما فيها السومرية والبابلية والآشورية والفارسية. وخلال سنوات العصر العباسي كانت بغداد واحدة من العواصم الثلاث للعالم الاسلامي.

وزعم فريدمان بأن العراق لم يخضع لسلطة القانون منذ عصر حمورابي، ليس الا هرطقة رخيصة أراد أن يبرر بها اطروحاته الاضافية. فالشعور بالانتماء لأية أمة يعد مسألة تتطلب الموضوعية التامة ولايمكن تقييمها بدقة استنادا الى معايير علمية فقط.

وهنا يمكن طرح السؤال التالي: هل يشعر أغلبية العراقيين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية، بأنهم عراقيون؟

يمكن لأي شخص على دراية بحقائق العراق أن يعي بأن هذا هو الواقع. ولمزيد من التأكيد فان العراقيين ينقسمون الى جماعات عرقية ودينية متعددة. فهناك العرب والأكراد، كما ان هناك التركمان واليزيديين والأشوريين. وهناك الشيعة وأهل السنة من المسلمين، اضافة الى المسيحيين وغيرهم من التجمعات ذات الأديان المختلفة. لكن هذه كلها ينابيع تصب في نفس النهر، وليس بعيدا عنه.

الجميع يشتركون في ذلك الشعور الذي لا يمكن وصفه، ويعبر عن الهوية الوطنية. وعلى سبيل المثال لايمكن عدم التفريق بين شيعي عراقي وشقيق له من ايران أو لبنان أو الهند. وقد أثبتت حرب ايران ـ العراق، التي استمرت ثمانية أعوام، بجلاء انه بالنسبة لمعظم العراقيين من الشيعة، كانت هويتهم الوطنية، لا الدينية، هي الدافع الأكبر. ولايمكن لكردي عراقي ان يزعم بأنه من أكراد ايران أو تركيا أو سورية. وهذا هو سبب عدم نجاح فكرة الهوية الكردية الشاملة في العراق. ويمكن بسهولة التفريق حتى بين معظم القوميين العرب أو العرب السنيين في العراق وأمثالهم في مصر أو الأردن والكويت.

فجزء كبير من الهوية الوطنية يعتمد على التجارب والذكريات المشتركة، السعيدة منها والمأساوية. ولدى العراقيين ما يخصهم من العرب والأكراد، كما ان لديهم أسرارهم العائلية الخاصة بهم، ولديهم تطلعاتهم الخاصة ومخاوفهم التي لايمكن لأي شخص أجنبي أن يقدرها بدقة.

الهوية الوطنية لا تتحدد بمشاعر شخصية فقط. كما ان رؤية الآخرين لك تؤثر أيضا. وبهذا الخصوص فان جميع العرب وبلا شك يمكنهم بشكل سريع التعرف على الشخص العراقي متى ما التقوا به.

وهكذا فان الحقيقة الأولى التي تحتاج ادارة بوش لادراكها هى ان هناك أمة عراقية موجودة وان هذه الأمة يمكنها بل ويجب أن تتولى ادارة مقاديرها. والبرامج المتعددة بشأن تقسيم العراق الى ثلاث أو خمس دول مصغرة يجب أن توضع في علبة الرماد التي تنتمي اليها.

أما الحقيقة الثانية فهي ان العراق، وربما أكثر من أية دولة عربية أخرى، لديه نخبة مثقفة، وطبقة متوسطة متحضرة متعلمة، وكوادر متخصصة، مطلوبة لاقامة مجتمع متطور يتصف بالتعددية.

والحقيقة الثالثة هي انه، وعلى خلاف زعم فريدمان فان نظام الحكم المستقبلي في العراق يجب أن لا يكون عسكريا. وفي الواقع لا يمكن للمرء أن يعتبر النظام الحالي عسكريا أيضا، فلا صدام حسين ولا أي من كبار مساعديه أدوا الخدمة العسكرية الوطنية. وحقيقة ان صدام حسين منح نفسه رتبة مشير خلال عام 1977 لا تجعله أو تجعل نظام حكمه عسكريا.

وفي الواقع كانت محاولة عام 1958 هي الوحيدة التي سعى فيها الجيش العراقي للاستيلاء على السلطة، عندما قررت وحدة عسكرية بقيادة عبدالكريم قاسم الاطاحة بالملكية واطلاق العنان لسلسلة من المآسي التي تواصلت حتى اليوم. وحتى نظام الحكم الذي نشأ عقب محاولة انقلاب عام 1958، تمكن بشكل سريع من تهميش الجيش في اطار تحالف مع الشيوعيين. وخلال انقلابي عامي 1963 و1968، استغلت الجماعات المتنافسة في أوساط حزب البعث، فرقا من الجيش كأداة للاستيلاء على السلطة.

وهكذا فان الجيش العراقي ليس بالضرورة أساس بقاء نظام صدام حسين.. ويجب على واشنطن عدم اعتباره عدو المجتمع المدني. وبخلاف ما يبدو ان فريدمان وغيره من المحللين الأميركيين الجهابذة يعتقدونه، فان الحرب ليست الوسيلة الوحيدة أو المثلى لتحقيق تغيير النظام في بغداد. بل ان هناك وسيلة أخرى أدق وأقل تكلفة، وتلك مسألة أخرى سنتناولها في مقال لاحق.