صدام.. «ديك العدة»؟

TT

ما من حكاية تعبر عن الورطة العالمية المتمثلة في صراع امريكا مع صدام سوى حكاية «ديك العدة» وهي حكاية معروفة لدى أهلي في قرى صعيد مصر وشمال السودان، حالة أفضل بكثير مما كتبه أستاذ العلوم السياسية توماس شلينج Thomas Schelling عن «ورطة السجناء».

وأساسي في فهم حكاية «ديك العدة» والازمة العالمية الحالية هو محاولة تخيل البيت في قرى الصعيد. فالبيت القروي في جنوب الصعيد وكذلك في شمال السودان هو بيت لا يقبل التخصص، اذ تكون فيه حجرة المعيشة هي حجرة الطعام فقط عندما تضع المائدة، واذا ما اقبل المساء وفرشت فيها الحصيرة، اصبحت حجرة نوم، اي ان التخصص يعمل على محور الزمان لا محور المكان (ولكن تلك حكاية أخرى)، المهم هو ان في مثل هذا البيت يعيش الانسان والطير في ذات المكان، ويتحسب اهل البيت لخطر واحد ناتج عن هذا الخلط وهو دخول أحد الديوك الى اخطر منطقة وأكثرها حساسية وهي المطبخ، وبالتحديد حال ما يقفز احد الديوك ويجلس في «عدة» المطبخ ذاتها.. و«العدة» للذين لم يعيشوا في مثل هذه البيوت غالبا ما تتكون من قفص معلق في أحد اركان المطبخ في مسمار كبير، وقفص «العدة» حساس Fragile فهو، مصنوع من سعف النخيل، مقسم الى مساحات توضع فيها اكواب الشاي والقهوة، وهي غالبا مصنوعة من زجاج البنور أو من الصيني، كذلك في هذه العدة ايضا توضع كنكة الشاي والقهوة. واهم الاخطار التي ترجف فيها قلوب اهل البيت في قرى الصعيد هي ان يقفز احد الديوك ويجلس في قفص العدة بين «الكاسات» كما يسمونها، والقلق ناجم من ان قفص العدة غالبا ما يكون صغيراً ومزدحماً بالاشياء الهشة. ولا ندري اسبابا محددة لكون العدة هي المكان المحبب للديك.

وقتما قفز الديك وجلس في العدة، دخل البيت في ورطة وحيص بيص وذلك لانعدام الخيارات امام سيدة المنزل، والتي في الغالب يكون لديها خياران لا ثالث لهما، الاول هو ان «تهش الديك» فينطلق مرتجفا ومتخبطا بأجنحته الكبيرة، تلك الحركة التي تودع فيها صاحبة المنزل كل ما في قفص العدة من ادوات وكاسات قابلة للكسر، وهذا ما يسمى بخيار «عليّ وعلى اعدائي»، حالة من الفوضى والتكسير وخراب للمطبخ، وهذا الخيار كما ترى خيار مكلف للغاية وخيار انتحاري، الخيار الآخر هو ان يجلس اهل البيت وعيونهم معلقة بهذا الديك الجالس في «العدة» وكأنها عرش حكمه، واضعين ايديهم على خدودهم وعيونهم شاخصة نحو العدة، آملين ان هذه الجمهرة ستدفع بالديك ليترك المكان وحده عن طيب خاطر. وهذا يتطلب انتظارا قد يطول، ولكن الجميع يعرف انه حتى عندما يترك الديك القفص بهدوء وعلى «مزاجه هو» فإنه على الاقل «سيأخذ في رجليه كاسة أو كاستين». تكسير محدود، ولكنه يكلفك الانتظار، لذا نقول عن أي ورطة في قريتنا تكون فيها الخيارات قليلة ولا بد من تقبل الخسائر هي ورطة «ديك العدة». إن «هشيته» أو صرخت في وجهه وطردته تحطم كل ما في العدة، وإن كنت تحاول تقليل نسبة الخسائر لا بد ان ترضى بالانتظار الذي قد يطول، ولكن في المقابل يجب ان توقع خسائر محدودة، وهي حالة مقايضة وحساب لتكلفة الانتظار مقابل التكلفة الكلية للعدة.

صدام حسين بالنسبة للعراق وبالنسبة للعالم العربي ورطنا ودخل العدة منذ 1990 او اكثر، ونحن نحاول ككل ربات البيوت ان نستخدم فلسفة الانتظار على امل ان الديك سيترك العدة من تلقاء نفسه وبذلك يقلل من حجم الخسائر. هذا ما فعلناه منذ 1990 حتى الآن. جلسنا ووضعنا ايدينا على خدودنا آملين في ان يترك الديك العدة، وكذلك قابلين بدفع ثمن تكسير كأسين او «استكانتين» او كوبين حسب التسمية المحلية لكل من لديه «عدة»، قابلين وراضين. ولكن جلوس الديك في العدة طال وعطل احوال البيت كلها. المطبخ السياسي والاقتصادي العربي في ورطة، ذلك لان الديك في العدة وغير مبال بما حوله. الامريكيون يختلفون عنا في رؤيتهم لديك العدة ذلك لانهم قادمون من منظومة فكرية أخرى ورؤية أخرى، اذ يفضل الامريكيون السلوك المباغت، يفضلون «هش الديك ونهره» بقوة حتى يترك العدة، ونحن نفضل الانتظار. ولكل مبرراته في سلوكه، فالامريكيون القادمون من عالم بوليصات التأمين، يظنون انه طبيعي ومن حسن الفطن ان تكون العدة «مؤمنا عليها» Insured وبالتالي متى ما تحطمت العدة فان شركة التأمين ستعوض اهل البيت بعدة جديدة، اما نحن في بلاد العرب فنعرف انه لا توجد هناك اي بوليصة تأمين وان العدة في خطر وان الانتظار والحل الدبلوماسي هما الافضل والانجع، وان طرد الديك بهذه الطريقة لن يأتي لاهل البيت بعدة جديدة، بل سيتركهم كما يقول اهل مصر «على الحديدة» وان افضل ما يمكن ان يقدمه العالم لهم وكذلك دول الجوار حال بقائهم على الحديدة هو ان يرسل لهم حديدة جديدة.

الفارق بين رؤية العرب ورؤية الامريكيين لحالة صدام هو الفارق في فهمهم لورطة «ديك العدة». والحكاية كما يراها استاذنا توماس شلينج هي ما يسمى بورطة السجناء الذين يتصورون حلولاً كثيرة للمشكلة وللتعاون ولكنهم لا يتعاونون. ورغم انني درست شلينج وآخرين، الا انني افضل ورطة ديك العدة كتوصيف للحالة التي نحن فيها.

الامريكيون قادمون لطرد الديك من العدة بالقوة، متصورين ان هناك بوليصة تأمين لما بعد خروج الديك من العدة، حقيقة الامر هي انه في الغالب ما يعنيه خروج الديك هو خراب العدة.

العرب في المقابل تعودوا على ان يقفز الديك في العدة من آن لآخر وينتظرون خروجه من تلقاء نفسه وقابلين لتحمل الخسائر. خرج الديك من الكويت وخرج من حربه مع ايران، فلماذا لا ننتظر؟

الحقيقة الاضافية هي ان الديك بلغ به العمر مبلغه الآن وهو ديك عجوز وربما لن يترك العدة ابدا، ليس لانه لا يرغب ولكن لانه عجوز وغير قادر على الفرار.

و«ديك العدة» في قريتنا نص مفتوح.. قابل لتأويلات عدة وعلى مستويات متنوعة.