رسائل كثيرة الوضوح إلى بوش وصحبه

TT

من القاهرة وجَّه وزراء خارجية الدول العربية وبالإجماع في اعقاب الاجتماع العادي نصف السنوي لمجلس الجامعة يومي 5 و6 سبتمبر (ايلول) الجاري رسالة في صيغة بيان ختامي صدر عن الاجتماع الى الإدارة الاميركية فحواها كنص رسمي «الرفض القاطع للتهديد بالعدوان على العراق واعتبار أي تهديد لدولة عربية تهديداً للأمن القومي العربي، ورفع العقوبات عن العراق وإنهاء معاناة شعبه الشقيق بما يؤمِّن الاستقرار والأمن في المنطقة واحترام استقلاله وسيادته ووحدة اراضيه ووقف جميع اشكال التدخل في شؤونه الداخلية...» وكملحق في صيغة تصريحات للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي قال: «إن ضرب العراق سيفتح ابواب جهنم وإن العرب يأملون في تجنب الحرب او اي عمل عسكري، وسنواصل العمل لتجنُّب مواجهة عسكرية او عمل عسكري».

ومن لندن حذَّر اسقف ويستمنستر (وهو الذي على يديه تتم الاعراس الملكية والصلاة على الشخصيات الملكية المتوفاة) الكاردينال كورماك مورفي اوكونور من ان تدخلاً عسكرياً في العراق «قد يؤدي الى تعبئة العالم العربي ضد الدول الغربية ويسيء الى جهود السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين...» مضيفاً القول في مقال نشرته صحيفة «تايمس» البريطانية يوم الخميس 5 سبتمبر «إن حرباً في العراق ستسفر عن الكثير من الدمار والمعاناة كما ستترتب عليها عواقب خطيرة لبلادنا والعالم...». وشكك الأسقف في التصريحات التي ادلى بها رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير حول وجود أدلة دامغة ان العراق ينتج اسلحة نووية وبيولوجية وكيميائية، ورأى انه «من دون أدلة مقنعة لا يمكن دحضها، سيكون من الصعب تبديد المخاوف في هذا البلد وخارجه حول تحرُّك من هذا النوع».

وما يلفت الانتباه ان هذا الكلام من جانب اسقف ويستمنستر لم يأت في صيغة عظة يلقيها من على منبر الكنيسة وإنما شاءه في صيغة مقالة في الصحيفة المحافظة، وذلك على اساس ان بضع مئات سيُصغون الى العظة في قداس الأحد وستكون بمثابة مشاعر روحية من جانب رجل دين من الطبيعي ان يكون ضد الحروب والقتل وان يطبِّق قول السيد المسيح عليه السلام حول ان تتعمق المسرة في نفوس الناس وأن يسود السلام على الارض، وهو قول لا يحب سماعه دعاة الحروب الساعين من اجل إشعال فتيلها ليل نهار. كما ان هذا القول يبدو مبغوضاً من جانب من امتهن التدمير والقتل مجزرة بعد الأخرى ونعني به ارييل شارون. أما نشر الكلام في صحيفة، على نحو ما حدث، فإنه سيكون موضع القراءة والتأمل من جانب بضعة ملايين وسيكون بمثابة موقف اخلاقي اكثر منه عظة روحية. كما انه سيكون تعزيزاً للخط البياني الديني المسيحي الرافض للحرب والذي كان المبادر الى تسجيله أُسقف كانتربري الحالي جورج كاري في رسالة بعث بها الى بلير وهدفه في ذلك التنبيه وليس الإحراج. فالرسالة عندما تُكتب تصبح مُلك المرسَلة اليه، وله ان يُفصح عنها او يُبقيها طي الكتمان، في حين ان المقالة ما دامت نُشرت والعظة ما دامت أُلقيت من على المنبر ليستا كذلك حيث أنهما تصبحان مُلك الرأي العام العريض يقرأ المقالة ويسمع العظة ويتخذ الموقف الذي يمليه عليه وجدانه. كما ان روان وليامز أُسقف كانتربري الذي سيخلف جورج كاري كان سجَّل موقفاً مماثلاً وبذلك فإن الكنيسة البريطانية باتت عملياً ضد ما يريد رئيس الحكومة اتخاذه في اتجاه مشاركة الادارة الاميركية ضرب العراق اذا استقر أمر الادارة على توجيه الضربة.

ومن اميركا نفسها حذر الرئيس الأسبق جيمي كارتر ومن خلال مقالة في صفحة الرأي في صحيفة «واشنطن بوست» من مغبة الحرب على العراق. وجاء في مقالته قوله: «ان الاميركان يغرقون يومياً تقريباً في تصريحات مسؤولين حكوميين يتحدثون عن مواجهة خطر كبير لأسلحة الدمار الشامل العراقية وعن وعود بقلب نظام صدام حسين مع دعم حلفاء واشنطن أو من دونهم. ان العراق لا يشكل خطراً حالياً على الولايات المتحدة وهو خاضع لمراقبة مشددة لاسيما نظراً للتفوق العسكري الاميركي الهائل. وأي تحرك عدواني لصدام حسين على جيرانه، او التهديد باستخدام حقيقي لأسلحة الدمار الشامل، أو أي محاولة لمشاركة التكنولوجيا التي بحوزته مع منظمات ارهابية قد تكون انتحارية للعراق. إن حرباً أحادية الجانب ضد العراق ليست حلاً. انني أُحذر من اصوات دعاة الحرب. ومثيري الفرقة التي تبدو مهيمنة في واشنطن، إلاَّ أنها لم تعكس بعد القرارات النهائية للرئيس والكونغرس او للمحاكم. ان هؤلاء يدفعون الولايات المتحدة بعيداً عن دورها التاريخي كرائدة لحقوق الانسان وزعيمة تحظى بالاحترام في المجتمع الدولي.

وهذا الكلام من الرئيس الاميركي الأسبق الحريص على سمعة بلده يلتقي تماماً مع الكلام الذي يقوله احياناً اصدقاء اميركا من العرب والمسلمين واحياناً لا يقولونه. كارتر حريص على الدور الإيجابي لأميركا. والعرب والمسلمون حريصون على الصداقة المتوازنة مع اميركا. وما يفعله بعض ذئاب الادارة الحالية الذين يشير اليهم كارتر من طرف خفي هو أنهم يؤثرون تطلعاتهم وشحنات البغضاء التي في نفوسهم على ذلك الدور وتلك الصداقة. والرئيس الأسبق في كلامه هذا لا يبغي منصباً ذلك أنه ذاق مجد الرئاسة وذاق ايضاً طعم الدور التاريخي متمثلاً بإنجاز اتفاق السلام المصري ـ الاسرائيلي الذي كان في محصلته ضد العرب، فضلاً عن انه في السن التي لا تسمح لصاحبها بالأحلام الكبيرة مرتضياً الادوار التوفيقية التي يقوم بها ومنها دوره في السودان الذي اثمر نسبياً ودوره في كوبا الذي أخفق نسبياً لكن على المدى البعيد لا بد سيثمر تطبيعاً متدرجاً مع هافانا. ولأنه لا يبغي المنصب فإنه لا يسلك كل ما هو ضد اميركا في سبيل الحصول على مبتغاه وفي أقرب فرصة وضمن اساليب المراهنة على نحو ما نلاحظ إصرار ديك تشيني نائب الرئيس بوش ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع حيث أن الاول يحلم بأن يصبح رئيساً ويتطلع الثاني الى أن يكون كمرحلة أُولى نائباً للرئيس تشيني مقدمة لأن يحل محله بسبب الدواعي الصحية للرجل.

هذه المواقف الثلاثة التي اشرنا اليها والتي هي الموقف العربي التي تنبعث منه روحية التفهم والرغبة في الوفاق واحترام الذات والتخوف مما قد يكون الأعظم، والموقف المتميز الذي لا يبغي صاحبه أسقف وستمنستر سوى إبعاد شبح البغضاء العربي والاسلامي عن بريطانيا، والموقف المتجرد الذي عبَّر عنه الرئيس الاميركي الأسبق جيمي كارتر، هي بمثابة رسائل يبعث بها هؤلاء الى الرئيس جورج بوش الابن وصحبه يريدون منها القول ما معناه ان من يملك السلطة عليه ان يكون كثير التروي وأن يصغي بكل الاهتمام الى من يسدي النصيحة، وأن لا يدع اللاهثين وراء الحرب يطغون على كل من عداهم.

وهذه المواقف كما نلاحظ تتزايد يوماً بعد آخر وتتزايد معها استطلاعات الرأي العام التي توضح النِسَب فيها ان لا رغبة في اعتماد العمل العسكري حلاً، الأمر الذي يعني انه اذا كانت الضربة العسكرية للعراق ستحدث على رغم كل هذه المواقف التي نشير اليها في هذا المقال، وايضاً مواقف الجنرالات الاميركان امثال سكروكروفت وشوارزكوف وزيني، وموقف رئيس الاركان البريطاني الذي آثر ان يعزله بلير على ان يجاريه في حماسته غير المنطقية للتوجه الاميركي المتحمس للضربة بصرف النظر عما سينشأ عنها من تداعيات، فهذا معناه ان عدواناً من نوع جديد سيحدث في الألفية الثالثة سببه ان من في يده اتخاذ القرار يرفض النصيحة.. وبالذات من وزير خارجيته الجنرال كولن باول الذي كان رئيساً للاركان يوم خاض الرئيس جورج بوش الأب الحرب عام 1991 على العراق والذي لا يشارك المتشددين رأيهم ولا يقر جموحهم نحو الحرب لأنه الأدرى بفواجعها وتداعياتها، وانها عدوان على العرب الذين قالوا في مجلس الجامعة العربية يوم الخميس الماضي وبالإجماع انهم ضد اي عمل عسكري يستهدف العراق، وعدوان على كل دولة اوروبية ترفض هذا الخيار وكل رجل دين ينصح بالتروي.

وما نتمناه هو ألاَّ يكون هناك طرف عربي شريك في شكل او آخر في هذا العدوان. ونقول ذلك على اساس ان وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم كان شبه مغرد داخل الاجتماع وانسحب محتجاً على رؤية ابداها وزير الخارجية السورية فاروق الشرع. وهذا التغريد كان السبب في ثلاثة تفسيرات، احدها ليبي والآخر سوداني والثالث للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، للفقرة التي لم ترد في البيان الختامي، حرصاً على الإجماع، حول عدم السماح لاميركا باستخدام قواعدها في الدول العربية لضرب العراق. وكانت التفسيرات متشابهة حيث ان وزير شؤون الوحدة الافريقية الليبي علي التريكي قال: «بما ان كل الدول العربية تعارض شن اي هجوم على العراق فذلك يعني تلقائياً انها لن تسمح باستخدام قواعدها لضرب العراق...»، وأن وزير الخارجية السودانية قال: «ان هناك إجماعاً برفض الضربة وهذا ضمنياً يعني عدم تعاون اي دولة عربية في ضرب العراق...»، والأمين العام للجامعة قال: «لقد نفى وزير خارجية قطر تماماً التقارير التي تشير الى احتمال استخدام القوات الاميركية قطر كقاعدة لشن الهجوم على العراق، فلماذا نصدِّق التقارير ولا نصدق المسؤولين... لكن اذا صحت المعلومات فإنها ستكون امراً مزعجاً...». وعلى هامش هذه التفسيرات تبقى الاشارة الى ان قطر هي الأكثر انسجاماً مع النظام في العراق وان الشيخ حمد سبق واجتمع بالرئيس صدام في بغداد قبل ثلاثة اسابيع، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى المزيد من التفسيرات.

وفي انتظار ما سيقرره الرئيس بوش وهل انه سينحاز الى العالم ام الى منطق كواسر الادارة واحلام ارييل شارون، فإن المزيد من الرسائل - المواقف ستصله. ومن المصلحة ان يقرأها بعناية ويتأمل فيها بعقل المسؤول الذي بيده فتح ابواب جهنم على نحو رأي اميننا العام عمرو موسى، او اغلاق هذه الابواب ورمي المفاتيح... كي لا يعثر عليها احد من بعده أو يتناسى مكانها اذا أتيح له تجديد الرئاسة ولاية اخرى أخفق والده في تأمينها.