هل كان 11 سبتمبر حدثا فعلا؟

TT

لا يزال السؤال مطروحا بعد مرور سنة على الحدث: هل كان زلزال 11 سبتمبر لحظة تحول وقطيعة في التاريخ، ونهاية حقبة كاملة وبداية عهد جديد، أم مجرد هزة كبرى لا تأثير لها في العمق والجوهر، حتى ولو فرضت الاهتمام وأثارت الخيال والألباب؟

قبل محاولة الاجابة على هذا الاشكال المطروح، حاليا بحدة في السيل العرم من الكتابات الصادرة هذه الايام، نذكر بالتمييز الذي يقيمه المؤرخ الفرنسي المشهور «فرديناند بروديل» بين «التاريخ الحدثي» ذي الايقاع السريع، أي زمن الاحداث اليومية المتتالية، و«التاريخ اللاحدثي» ذي الايقاع البطيء، أي زمن البنيات العميقة والتحولات الهيكلية غير الظاهرة.

ويذهب بروديل الى ان الزمن الحدثي، الذي يسميه ايضا «زمن الحروب والهدن»، هو الذي استأثر سابقا باهتمام المؤرخين، رغم انه نسبي، جزئي، ومضلل احيانا، باعتباره يقف عند التموجات السريعة التي لا يتسنى فهمها وضبطها إلا في سياقها البنيوي الأعمق.

واذا طبقنا هذا النموذج على احداث 11 سبتمبر 2001، امكننا التمييز بين الحدث في ايقاعه السريع الذي اعتبره جل المحللين والسياسيين (وعلى رأسهم الرئيس الامريكي جورج بوش) بداية مرحلة جديدة من تاريخ العالم، واطار الحدث البنيوي، اي العوامل التي مهدت له، والظرفية التي يتنزل فيها، والنتائج البعيدة التي سيفضي اليها.

وبطبيعة الامر، فإن التأريخ للحدث في المستوى الثاني يتطلب مرور سنوات عديدة عليه، كما يتطلب تضافر جهود الباحثين في اختصاصات عديدة: علوم اجتماعية وعلاقات دولية واقتصاد سياسي..

بيد ان التحليل الحدثي لزلزال 11 سبتمبر يقتضي في الآن ذاته حدا ادنى من التحليل البنيوي، في ما وراء الايقاع السريع للانفجار، حتى ولو كانت نتائج هذا التحليل نسبية ومحدودة. من هذا المنظور، يمكن تصنيف جل النماذج التحليلية التي قدمت خلال السنة المنصرمة في ثلاثة اتجاهات متمايزة:

اما الاتجاه الاول، فقد اعتبر احداث 11 سبتمبر تكريسا نهائيا للمسار البارز منذ نهاية الحرب الباردة، اي مشهد الهيمنة الامريكية الاحادية، الذي كان يحتاج الى خطر خارجي يوفر له الغطاء الاستراتيجي والفاعلية الهجومية. ومهما كان شكل وانماط تجسد هذه الهيمنة الاحادية في مستوى العلاقات الدولية، فإن السؤال الذي يطرح، هو الى اي حد يمكن لظاهرة معقدة لا شكل لها، وثيقة الصلة بالعوامل المجتمعية والثقافية والازمات المحلية والاقليمية (عنيت ظاهرة الارهاب) ان تشكل عدوا استراتيجيا للقوة الدولية المهيمنة، تستخدم ازاءه نفس المقولات المألوفة في الخطاب الامريكي خلال الصراع القطبي السابق (صراع الخير والشر)؟

ان هذا الاشكال هو الذي يفسر عجز الادارة الامريكية عن بناء عقيدة استراتيجية للتحالف الدولي الجديد ضد الارهاب، بل عجزها حتى عن تأمين الحد المطلوب من التوافق داخل مجال امتدادها الاوروبي، مما حدا بالكاتب الامريكي المعروف فوكوياما في مقالة اخيرة بصحيفة «الهيرالد تربيون» الى التشكيك في فكرة وحدة الغرب وانسجامه.

اما الاتجاه الثاني الوثيق الصلة بالاتجاه الاول، فيتمثل في اللجوء الى براديغم «الصراع الحضاري» الذي كثر الحديث حوله خلال العام المنصرم.

فاذا كان الارهاب عدوا زئبقيا لا شكل له ولا موقع، فإن الحضارات كيانات ثقافية متجسدة في امم ودول وتقاليد قيمية وسلوكية. ومع ان الكثير من المحللين والكتاب لا يذهب الى حد اختزال الصراع الدائر راهنا بصدام بين الاسلام والحضارة الغربية المعاصرة، إلا انه من الواضح ان هذه الخلفية حاضرة في الاذهان، حتى ولو سلكت مسارب ضيقة خفية: مثل التركيز على بعض البلدان الاسلامية بعينها (مثل المملكة العربية السعودية التي نالت القسط الاوفر من هذه الهجمة العدوانية)، او بعض المجموعات والالوان الآيديولوجية والسياسية (الاصولية الاسلامية)، ومن ثم الصعوبة البالغة في الفصل بين الارهاب والمجال الاسلامي في الخطاب الامريكي الرسمي وفي الادبيات الغربية السيارة.

فالسؤالان الرئيسان المطروحان بحدة في الخطاب السياسي والثقافي الامريكي والغربي اجمالا:

لماذا ظلت المنطقة العربية الاسلامية عصية على التحديث (من موقع رفض التغريب)؟ ولماذا هي مركز اهم حساسيات التمرد على الهيمنة الامريكية؟

ولئن كان السؤالان يقتضيان الاجابة المعمقة ولو بمقاربة موضوعية مغايرة (عوائق المشروع التحديثي العربي ـ الاسلامي، وصلة هذه العوائق بالعامل الخارجي)، فإن الاجابة المقدمة في الغالب تتسم بالسطحية والتسرع والعجز عن ادراك الاسباب الموضوعية لنشوء ظاهرة التطرف والعداء للمصالح الامريكية والغربية (وعلى رأس هذه العوامل طبعا المعادلة الاسرائيلية).

اما الاتجاه الثالث الذي له اشياعه الكثر في منطقتنا العربية الاسلامية، فيرى في الحدث مبشرات نهاية الهيمنة الامريكية، ومظهرا بارزا لضعف وهشاشة القوة المتحكمة في العالم، وبداية افول هذه القوة.

ومن المفارقات المثيرة ان مصدر هذه التصورات هو اساسا كتابات بعض المفكرين الامريكيين «المنشقين» مثل العالم اللغوي المشهور ناعوم تشومسكي.

ولئن كانت هذه الصورة ترضي عواطفنا، وتثلج صدورنا، إلا انها مضللة وخاطئة، ولا تصمد امام الحد الادنى من التحليل الموضوعي المعمق.

مهما كانت نقاط الضعف في النظام الامريكي، ومهما كانت التناقضات البادية في العلاقات الدولية، فإن المشهد الثابت في النظام الدولي الحالي هو تحكم الولايات المتحدة في الرهان الاستراتيجي العالمي وفي بنية الاقتصاد العالمي الموحد.

ألم يكن اذن 11 سبتمبر 2001، في ما وراء الهزة العنيفة التي ارتبطت به، «من تفاصيل التاريخ» كما يقال؟