ما التسامح؟!

TT

ما التسامح؟! هل «التسامح» مفهوم غربي حديث، وليد عصر الحداثة المنبثق في القرن الثامن عشر؟ وهل عرف العرب مفهوم التسامح كمنظومة حقوق وليس كقيم دينية وحسن سلوك وأخلاق حميدة في حضارتهم العتيدة؟!

ان مفهوم التسامح الذي نفهمه اليوم، دارجا في بنية دولة الحقوق والواجبات المعاصرة، هو نتاج تاريخي لحضارة الغرب!

كان اجتراح مفهوم التسامح وتأسيسه حاجة وجودية ملحة للخروج بالمجتمعات الغربية من أتون حروب التعصب الديني التي دامت نحو قرن ونصف قرن، من القرن السادس عشر الى منتصف القرن السابع عشر، ونشرت الموت والخراب والمجاعات والاوبئة.

لم يكن من مخرج من جنون الحروب الدموية الا باجتراح معادلة عقلانية يحتكم الى منطقها في فصل المقال (والمقام) فيما بين الدين والسياسة من اتصال!

ففي أواخر القرن السابع عشر، نشر الفيلسوف التنويري الانجليزي، جون لوك، كتاب «رسالة في التسامح» بدون توقيع اسمه خوفا مما قد يتعرض له من ردود فعل غاضبة قد تهدد حياته، لأنه دعا في كتابه الى القضاء على بنية التفكير الأحادي المطلق، وروح التعصب الديني المغلق، واقامة الدين على العقل، وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح تعتمد مبدأ فصل المهام بين دور الكنيسة ودور الدولة، ومبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الطوائف الدينية.

وان كان قد جرى تأصيل التسامح الديني وتقنينه على مدى قرون عصر الحداثة، فانه ما لبثت ان نشبت حروب التعصب القومي والايديولوجي، التي عرف العالم حصادها التدميري الرهيب خلال عصر الاستعمار العالمي، وتجارة العبيد، وابادة السكان الأصليين للعالم الجديد والحربين العالميتين. لكن تراث التسامح الحقوقي، منذ جون لوك، ظل يتكون ويتطور فكرة وممارسة بتطور الرأسمالية والطبقة البرجوازية والثورات (الفرنسية، الامريكية، والثورة الانجليزية الصامتة) وازدهار التجارة العالمية وبالتالي توسع الطبقة الوسطى (الدنيا والعليا) وانتشار الأفكار التنويرية والحريات الفردية وترسخ منطق نسبية الحقيقة، وغير ذلك من معطيات التقدم المدني، على الضد من انقراض الاقطاعية وسلطة الكنيسة المطلقة واحتكارها للحقيقة وأفكارها الخرافية الظلامية الاستئصالية للآخر المختلف!

ان التسامح يعرف بضده التعصب. ومصدر التعصب في تاريخ الاجتماع البشري هو عصب الفكرة الشمولية الأحادية سواء أكانت دينية أم وضعية، كما كان الحال في انظمة التعصب الكنسي في العصور الوسطى، ثم انظمة التعصب الايديولوجي في العصر الحديث (الشيوعية والفاشية والنازية والصهيونية) واليها، اليوم، حركات التطرف المختلفة في الشرق والغرب (اسلامية ويهودية ومسيحية وهندوسية وسنهالية وتاميلية وصربية ونازية جديدة)... الخ.

ان التسامح يجد معناه (استنادا الى الاعلان العالمي لمبادئ التسامح) في الاحترام والقبول بالآخر، وتقدير ثراء التنوّع الحضاري في الثقافة الحضارية المحلية والعالمية، وهو يعزز بالمعرفة واختلاف الآراء وكثافة الاتصال وتأصل حرية التفكير والمعتقد.

التسامح (حسب الاعلان العالمي) هو تناغم الاختلاف، أي ائتلاف الاختلاف، انه ليس فقط واجبا اخلاقيا، انما هو ايضا مطلب سياسي وقانوني: فللتسامح فعالية مائزة تجعل السلام ممكنا (بين الافراد والجماعات)، وتسهم في استبدال ثقافة العنف والحرب بثقافة السلم.

التسامح ليس حقا يمنح، أو مجرد تساهل أو تعاطف، انه، أولا وقبل كل شيء، موقف فعال يحث على الاعتراف بحقوق الانسان المتعارف عليها دوليا، والحريات الاساسية للآخرين، وانه لا يجوز تحت أي ظرف كان أن تنتهك هذه القيم والحقوق. فالتسامح ممارسة فردية وجماعية، ورسمية من قبل الدول. ومسؤولية تدعم حقوق الانسان والتعددية (ضمنها التعددية الثقافية) والديموقراطية وحكم القانون، وذلك يقتضي رفض الجزميّة (الدوغماتيّة) والقطعية، أي كل مظاهر الاستبداد والحكم المطلق.

ان ممارسة التسامح لا تعني تسامح العدالة الاجتماعية أو ان يكون ناجما عن تنازل أوضعف في قناعة المرء. انه يعني ان المرء حر في ان يتمسك ويتقيد بقناعاته مع قبوله لقناعات الآخرين. انه يعني ان البشر، في اختلافهم الطبيعي في مظهرهم ووضعهم ولغتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بأمن وسلام كما يرون أنفسهم. كما يعني التسامح أيضا أن لا يفرض الرأي الواحد على الآخر!

وبالطبع لا تقدم منظومة حقوق التسامح، دائما، حلا شافيا نهائيا لتجفيف منابع التعصب. فكثير من أفكار التعصب المتطرفة تنتعش وتنتشر في المجتمعات الليبرالية ذات الحيز الشاسع من المساواة القانونية والتسامح والحرية الفكرية، لكن مبدأ التسامح (حقوق وواجبات) يبقى هو الحامل الشاقولي لدولة الديموقراطية الحديثة التي يجب أن تكون سلطاتها ومؤسساتها الرسمية محايدة امام تعددية الهويات والمعتقدات والأفكار والآراء المتداولة في مناخ من الاختلاف السلمي المحمود.

لقد أعلنت الامم المتحدة سنة 1995 سنة عالمية للتسامح، وأصدرت في 16 نوفمبر في ختام المؤتمر الدولي للتسامح اعلان مبادئ كونيا، أكد على الالتزام بمواد الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمعاهدات والاتفاقيات المتصلة به. ودعا الدول الى تأصيل سياسة التسامح في قوانين وثقافة المجتمع لمكافحة مظاهر التعصب الديني والقومي والعرقي وكراهية الاجانب، والاقصاء والابعاد والتهميش والتمييز ضد الاقليات الوطنية والدينية والعمال الاجانب والمهاجرين واللاجئين، وافعال العنف ضد حرية الافراد في إبداء الرأي والتعبير الحر وكل ما يهدد الديموقراطية والسلام.

ويبقى السؤال: ماذا عن العرب والتسامح، واين هم من منظومة حقوقه؟! ـ هذا ما سنتعرض له في مقال لاحق.

[email protected]