ألحان الشر

TT

ما لهم يتسابقون إلى الحرب تسابق الهوام والحشرات إلى جرة عسل؟..

وما عن الجنود، ولا عن السياسيين نحكي، فالعسكر بيادق تتحرك بالأمر، والسياسيون أصحاب مصالح انتهازية لا مانع عندهم أن يدمروا العالم في سبيلها، لكن السؤال يتوجه إلى فئة تدعي الفكر، والأدب، وتخدم في الإعلام وتتبرع قبل غيرها لقرع طبول الحرب، وكأنها نزهة مريحة.

هذه الأصوات تصدر بكثافة عن أميركا، وقلة منها في بريطانيا، ونحن كالعادة تصيبنا العدوى، وكأننا مَن تبقى من بني مازن وهم بحسب وصف الشاعر الذي خسر إبله لأنه لم يكن منهم:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

إن التشجيع على الحروب بين أهل الفكر والأدب نغمة نعرفها عربياً منذ حرب الخليج الأولى التي أنتجت ثقافة خنادق، وأدب جبهات، وروايات حرب، وقصص كرّ وفر، وبطولات وهمية اتحدى الذين عرضوها في صحفهم وصفقوا لها أن يتذكروها.

ان الأدب لا يمكن أن يكون مع الدم والعنف، وإهدار حياة البشر بالملايين ومئات الألوف، وان شئت مثالا من الأدب العالمي فإليك صاحب رائعة «الدون الهادئ» شولوخوف، الذي ترسخت عظمته برواية وقفت ضد الحرب دون أن تهاجم الجنود، إنما فعلت ما يفعله كل شجاع وهو توجيه أصابع الاتهام إلى من يرسلونهم إلى الجبهات ليموتوا بالمجان لأسباب يجهلونها.

ان الفئة السياسية المنحرفة التي لا تعيش إلا بثقافة الدم الذي يغذي وهمها بالتفوق تعادي شعبها قبل أن تنشب أظافرها بالشعوب الأخرى، فما من دولة بدأت العدوان وانتصرت بغض النظر عن حجمها وإمكانياتها.

لقد وقف كبار الشعراء والأدباء والمفكرين ضد الحروب، ومن غامر، وأيدها ضمنياً فقد نصف سمعته كما في حالة ازرا باوند، أو مكانته الأدبية كلها عند التأييد العلني، كما في حالة الأديب الأميركي شتاينبك الذي خرج مع الطيارين الأميركيين الذين كانوا يقصفون فيتنام، ووصف أصابع أحدهم وهي تضغط على زر إطلاق الصواريخ والقنابل بيد العازف الماهر التي تبدع أجمل الألحان.

وهذه الصفة غير غريبة عن هؤلاء المرضى الذين لا يطربون لغير ألحان الشر المكتوبة على سيمفونيات الكراهية والعنصرية والمختلطة بصراخ الأطفال والجرحى في الملاجئ وتحت الانقاض، فالتفوق في قاموس هؤلاء أن تضرب دون رحمة إلى أن يركع عدوك مهما كان هدف الحرب التي تشنها ضده، ومبررة كانت أم غير مبررة؟ وما من شيء يبرر القتل لو كانوا يعلمون.

والعنف وحب الدم لا يأتيان من فراغ، فهما ثقافة رسمية بالدرجة الأولى يزرعها المستبدون، وتقطف ثمارها شركات السلاح التي لا تزدهر تجارتها ـ وبئس التجارة ـ إلا على حساب أنين البشر وعذاباتهم التي لا تنتهي مع صمت المدافع.

قد يشجع الشويعر الحرب لهدف شخصي تافه مثل صاحبه، وقد يدافع الكويتب عن قصف الأبرياء باسم الكبرياء الوطني الذي يوظفه الجلادون لخدمة مصالحهم، وقد يتورط ربّ أي قلم أو مايكروفون أو كاميرا في اتخاذ موقف لصالح من يحركون الدبابات والطائرات والبوارج، لكن سرعان ما يكتشف هؤلاء جميعا حجم الخطأ الفادح الذي يرتكبه كل من يحرض على حرب أو يشجع عليها، فالأدب والفن في جوهرهما السامي موقف مع الحب والحياة والسلام والعدل والحرية والمساواة، وكل من يوظفهما في غير هذا الاتجاه يخسر، ويفقد حقه في الانتماء إلى ذلك الفضاء النبيل المسخر لخدمة الإنسان والرقي به لا لتشويه فطرته وتدميره.

دعاة الحرب في الأدب والفن، والفكر والإعلام أصحاب قضية خاسرة سلفا مهما زينوها وزخرفوها ولمّعوها ومعظمهم لا يعرف الحرب إلا بالاسم، ولو كانوا جرّبوها كما جربها كولن باول ــ مثلا ـ لكان لهم موقف يشبه موقفه، فالحرب ليست لعبة، ولا نشيداً حماسياً ولا خطب بيان ومقالات بلاغة.

انها قتل وترويع، واقتلاع وتدمير، وكل صاحب ضمير لا يستطيع إلا أن يقف ضدها وهم من حسن الحظ كثر، فباستثناء تلك الحفنة المولعة بالشر وألحانه التي تقرع طبول الحرب كل صباح ومساء، تتنامى في عالم اليوم الأصوات التي تؤيد تسوية المشاكل دون عنف وحروب، فقد شبعت الأرض من الدم الذي لا يفرخ غير الأحقاد والضغائن، فكل حرب لا تمضي قبل أن تغرس في أرض الشر بذرة الحرب التي تليها، والناس ليسوا قطعاً بحاجة إلى بذور الكراهية والعنصرية والحقد، وهم أحوج ما يكونون مع تنامي قدرات التدمير الشامل إلى قادة يغرسون بذور السلم والامن والحرية.