11 سبتمبر (5) أم الأبراج

TT

حاول الدوتشي موسوليني ان يضيف الى كل آثار روما القديمة مباني هائلة جديدة. فالعواصم السياسية رموز تاريخية. والمباني التي بنيت في باريس قبل 200 عام لا تزال هي دور الحكم. وكذلك في لندن. ذلك هو رمز الاستمرارية التاريخية ومجد المدن. كل شيء في برلين يذكر بأمجاد برلين الامس. ليس فقط قصور الحكم بل الفنادق والطرقات وبلاط الارصفة ومحطات القطار. تلك هي العواصم السياسية.

لكن هناك عواصم تجارية رموزها الابراج والمباني الشاهقة الارتفاع. فالعاصمة السياسية الكندية، اوتاوا، اشبه ببلدة صغيرة تميزها قباب البرلمان الفستقية اللون وازهار التوليب في شهر مايو. اما العاصمة الاقتصادية تورنتو فيميزها برج التلفزيون الأعلى في العالم، والناطحات الزرقاء، ومبنى البورصة ودور الصحف الصحف الكبرى. وكذلم ساو بالو.

واهم هذه العواصم هي نيويورك ليس في ناطحاتها بل لأنها اكبر مدينة تجارية في الكون في التاريخ. وعندما تقرر بناء مبنى البرج التجاري العالمي تقرر ان يكون ايضا اعلى ناطحات نيويورك، وان ينسي الناس ارتفاع «الامباير ستايت» التي غالبا ما ترى دورها الاخيرة سابحة في الغيوم في أي يوم خريفي.

هذا هو الرمز الذي اختار «الشيخ المجاهد العالم المجتهد الفاروق أبو عبد الله أسامة بن لادن أسد الله» ان يوقع به الضربة القاضية «بعون الله سبحانه وتعالى»، انتقاما لسياسة أميركا في فلسطين والعراق. لكن بعد عام على ذلك نرى أميركا تستعد لغزو العراق، ونراها اقرب الى اسرائيل من أي وقت مضى منذ 1948. لقد رمت أفغانستان بـ22 الف قنبلة وهي تسقط حكم طالبان وتطارد الملا عمر وأسامة بن لادن. وهي الآن تدعو العالم اجمع لمشاركتها ذكرى الطائرات الاربع التي غيرت ملامحها النفسية والحسية الى الابد ما بين الثامنة والنصف والتاسعة من صباح ذلك النهار. ولم يعرف احد الى الآن ماذا كان هدف الطائرة الرابعة. لكن ركابها علموا من الهواتف الجوالة ماذا حدث في نيويورك والبنتاغون، فقرروا ان ينتحروا مع الخاطفين ومنعهم من الوصول الى الهدف.

لقد استخدم الفريقان معا هذه المرة سلاحا واحدا: الحياة! وهو ليس جديدا ولا مستحدثا. فقد كان المنتحرون في الاساطير الاسكندنافية يذهبون الى «اشغارد» «قصر الآلهة ذي الـ540 بابا» لكي يعيشوا حياة سعيدة. وعشية الحرب ضد نابليون كتب ثيودور كرونور ان «السعادة تكمن في الفداء الوطني». وفي الياذة هوميروس لم يكن الموت من اجل الوطن بطوليا فسحب بل كان لذيذا ايضا. غير ان العمليات الانتحارية اليوم تتخذ منحى آخر تماما. ومن اجل فهمها ومواجهتها اتصل البريطانيون بفريقين مختلفين تماما: اسرائيل، حيث العمليات الاستشهادية الفلسطينية، وسري لانكا، مسرح العمليات التي يقوم بها ثوار التاميل. لكنني وأنا اعيد قراءة ما كتب وما قيل بعد 11 سبتمبر خطرت لي ملاحظة عميقة لا ادري مدى دقتها وليست لدي وسائل للتحقق من ذلك: ان الوجود الفلسطيني في حركة بن لادن قيادة وقاعدة، يكاد يكون غير ملحوظ، باستثناء «أبو قتادة» وعدد قليل آخر. وترفع على جدران الروضة في فلسطين شعارات تقول «الأطفال هم شهداء المستقبل»، لكن عمليات الشهادة الفلسطينية تمت في ارض فلسطين وضد الاحتلال، وانكفأت الى الداخل منذ وقت طويل. وحتى في حروب مثل حرب الشيشان يلاحظ ان المشاركة الفلسطينية كانت ضئيلة نسبيا. ولم يكن للفقر دور، كما يقول خبراء وعلماء الارهاب. وقد قال كوفي عنان، دعونا لا نظلم فقراء العالم الثالث بأن ننظر اليهم جميعا كارهابين. فهناك 50 دولة تحت حزام الفقر على الاقل، لا تشهد أي منها اعمالا عنيفة او ارهابية. لقد اعيد النظر في كل شيء غداة انهيار برجي التجارة العالمي، واخذ كل فريق يتلمس نفسه من جديد. ولكن هل فعلوا ذلك من اجل المزيد من التصادم او من اجل التلاقي؟