إنهم يريدون تطوير الحرب لتشمل أفكار الإسلام وأرصدة المسلمين

TT

في أعقاب فاجعة 11 سبتمبر (ايلول)، توقع البعض أو تمنوا أن تصبح تلك نهاية ما سموه الاسلام السياسي، وتعجل آخرون وأصدروا أحكاماً قاطعة بفشل المشروع الاسلامي وطي صفحته إلى الأبد، حتى ان أحدهم (الباحث الفرنسي جيل كيبل مثلاً) ألف كتاباً في أكثر من 450 صفحة حاول أن يثبت فيها ذلك الادعاء، غير أن الشواهد التي تلاحقت أثبتت ان التداعيات تجاوزت بكثير حدود الاسلام السياسي، وطال بعضها الاسلام ذاته، منذ ارتفعت أصوات في الولايات المتحدة بوجه أخص منادية بضرورة هزيمة الأفكار بعد هزيمة الجماعات، بل ان أصواتاً أخرى ذهبت الى حد المطالبة بتجريد المسلمين من ثروتهم التي هي أحد مصادر قوتهم، الأمر الذي اذا تحقق فانه ـ في نظرهم ـ يوفر امكانية «تطويع» المسلمين وترويضهم.

عندي كلمة مختصرة تخص مسألة الاسلام السياسي التي لا يزال البعض يتحدث عن انتهاء دوره وخروجه من ساحة التأثير العام، ذلك أن الذين يرددون تلك المقولة يتناسون حقيقة ان الاسلام السياسي ليس شيئاً واحداً، ولا هو كيان معلب، وانما تمثله جماعات أو حركات، هي جزء من النسيج السياسي والاجتماعي في العالم العربي والاسلامي يتعذر وضع خطوط أو علامات واضحة توضح البدء فيها والمنتهي. واخراج الدكتور الترابي واعتقاله في السودان، أو صراع الاصلاحيين والمحافظين في ايران، أو اسقاط نظام طالبان في أفغانستان، وتوجيه ضربات قاصمة لجبهة الانقاذ في الجزائر أو سحق محاولات استقلال الشيشان، ذلك كله لا يعني ان الاسلام السياسي انتهى أو ان المشروع الاسلامي فشل. ومن المفارقات اللافتة للانتباه في هذا الصدد أنه في الوقت الذي يروج البعض لذلك الادعاء، فان جهوداً مكثفة تبذل لقمع وحصار الحالة الاسلامية (التي يقولون انها انتهت وأصبحت جزءاً من الماضي) في اقطار عربية عدة، سواء في الانتخابات النيابية أو النقابية.

لست هنا في مقام الدفاع عن مواقف أو ممارسات تلك الحركات، بل ان لي تحفظات على بعضها، ولكن فقط أقول ان اسطورة انتهاء حركات الاسلام السياسي وفشل مشروعها (الذي لم يواجه اختباراً جاداً بالمناسبة)، هذه الأسطورة صنعتها خيالات البعض وامنياتهم، ولم يتسن لشواهدها ان تتحقق على أرض الواقع. نعم هناك صعوبات جمة واجهت وما زالت تواجه العمل الاسلامي، في داخل الوطن العربي وخارجه، ولكن بروز تلك الصعوبات شيء، وتوقف المسيرة وانفضاض جماهيرها أو غيابها عن الساحة شيء آخر، ذلك ان «الجماعات» ليست كيانات هابطة من السماء أو مستوردة من الخارج، ولكنها جاءت من رحم مجتمعات لها معتقدات وأشواق، وكانت بدرجة أو أخرى معبرة عن هذه وتلك.

لا أريد أن أطيل في هذه النقطة التي تحتمل كلاماً كثيراً، لكنني لا أستطيع أن أغادرها الى غيرها دون أن الفت الانتباه الى أنني أخرج من الدائرة لأتحدث عن جماعات الارهاب والعنف المسلح، حيث أزعم انها لا تعبر بأي صورة عن معتقدات الناس ولا أشواقهم وانما هي تلطخ الاثنين وتشوههما.

قلت ان تداعيات الحدث مست الاسلام ذاته، واثارت لغطا حول ثروة المسلمين التي زعموا انها تمول الارهاب وتنعشه، وهو ما يعني ان أصابع الاتهام خلال العام المنقضي أصبحت تشير ليس الى المسلمين وحدهم، وانما الى أفكارهم وأرصدتهم أيضاً

بعد شهرين من حدث 11 سبتمبر. في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، القى وزير الخارجية الأمريكي كولن باول خطاباً في جامعة لويسفيل بولاية كنتاكي، تحدث فيه عن القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهو ما استأثر باهتمام الاعلام العربي، ولكن هناك شقاً في حديثه لم يلق ما يستحقه من اهتمام، حيث أشار في عدة مواقع الى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الاسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والعقيدي والسياسي لتلك المجتمعات. وهذا الكلام الذي قيل قبل عام، ليس منفصلاً عن ممارسات عدة في العالم العربي والاسلامي، طالت مناهج التعليم والخطاب الديني ودعوات العلمنة التي أصبحت تتردد بنبرة أقوى في الخطاب السياسي. ولا أحسب ان ذلك كله منفصل عما أعلن عنه مؤخراً، من أن الخارجية الأمريكية بصدد اعداد برنامج «للاصلاحات» في العالم العربي، تشمل مجالات عدة، وانها خصصت 25 مليون دولار بصفة مبدئية لتمويل مشروعات تجريبية لتدريب الناشطين السياسيين والصحافيين والقيادات النسوية والنقابية.

الحديث عن «الاصلاحات» في مختلف المجالات بالعالم العربي والاسلامي، يبطن رغبة غير خافية تستهدف اعادة تشكيل العقل والواقع في المجتمعات الاسلامية، ويسترشد بالتجربة التركية التي تشير المعلومات الى أنها حاضرة في خلفية تلك الدعوة، ذلك ان الدوائر الأمريكية ـ والغربية عامة ـ تعتبر تلك التجربة نموذجاً ناجحاً لعلمنة المجتمعات الاسلامية مع «اضفاء مسحة» ديمقراطية عليها. وهناك مقولات كثيرة صدرت عن «خبراء» ومنظرين في أوروبا والولايات المتحدة أجمعت على أن النموذج التركي هو الحل الأمثل لمشكلة المجتمعات الاسلامية، وان النموذج الشيعي الايراني أو النموذج السلفي أو النموذج «الطالباني» الأفغاني، لا يصلح أي منها لاقامة مجتمعات مدنية وعصرية في العالم الاسلامي، ولذلك فان البديل المرشح هو ذلك الذي طبقته تركيا.

في ندوة عقدت خلال شهر ابريل (نيسان) الماضي بمدينة هارتفورد (ولاية كونيكتيكت) حول التجربة التركية، نشرت وقائعها صحيفة «نيويورك تايمز»، قال الكاتب الأمريكي ستيفن كيتزر، الذي كان مراسلاً لصحيفة «نيويورك تايمز» في تركيا وله كتاب بعنوان «تركيا بين عالمين: النجمة والهلال»: ان تركيا هي الدولة الاسلامية الوحيدة التي ردت بالايجاب على رسالة العالم الغربي في أعقاب أحداث سبتمبر، وذلك بسبب وجود نظام علماني ديمقراطي بها. هذا المعنى ردده المؤرخ المستشرق برنارد لويس ـ أحد الناصحين الذين يستشارون في البيت الأبيض الذي قال: ان تركيا دولة نموذجية في العالم الاسلامي لأن الاسلام السياسي لا يمكن أن يتفق مع الديمقراطية العلمانية.

لقد عقدت ندوات عدة حول النموذج التركي كان التركيز فيها واضحاً على ترشيحه للتعميم على العالم الاسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر. ونظمت تلك الندوات جامعات أمريكية في كاليفورنيا وميتشيغان، وجامعة نوتردام في هولندا. كما طرحت الفكرة في مؤتمر «العالم الاسلامي وأوروبا»، الذي عقد بتركيا خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، وفي منتدى استنبول (ستانبول فورم) الذي عقد في شهر مارس (آذار)، لمناقشة «هدف الغد ـ عام 2021».

لم يقف الأمر عند حد ترشيح النموذج التركي كحل لأزمة العالم الاسلامي، وانما تجاوزه في حالات كثيرة أي تجريح الاسلام ذاته. لاحظنا ذلك في كلام وزير العدل الحالي اشكروفت (اصولي بروتستانتي وابن لقسيس) انتقد فيه ما سماه بإله المسلمين، وامتدح إله المسيحيين، وتحدثت مجلة «اتلانتيك منثلي» عن الشك في صحة القرآن، وتطاول بعض القساوسة المرقصيين على شخص الرسول عليه الصلاة والسلام، وادرجت أهم مفردات الخطاب الاسلامي ضمن قائمة المصطلحات الشريرة، من الشريعة الى الجهاد وقد اشرنا في الأسبوع الماضي الى محاولات إلغاء الكلمة واستبدال مصطلح آخر بها، بعدما حدث ربط بين القرآن والشريعة والجهاد وبين الـ «بن لادنية» و»الوهابية» وطالبان.

قبل أن ينصب الهجوم على الاسلام ككل، تمت ادانة المسلمين جميعاً، معتدلين ومتطرفين ومتدينين وغير متدينين، وتدارست الدول الغربية فكرة الحد من «الهجرة غير المرغوبة» وكان المقصود بها هجرة المسلمين بوجه أخص، لأن تلك الدول لا تمانع في الهجرة، وتحتاجها لممارسة الأعمال التي يتأبى عليها المواطنون العاديون، لكنهم يفضلون أي «جنس» غير المسلمين، من دول آسيا أو دول أوروبا الشرقية سابقاً.

إلى جانب الحد من هجرة المسلمين، فان قيوداً عدة فرضت على الدارسين المسلمين في الأقطار الغربية، اذ فضلاً عن مراقبتهم وصدور قرار من الكونغرس يسمح بالتنصت على مكالماتهم، وفضلاً عن متابعة تحركات الأموال التي ترسل إليهم، قررت الجامعات منعهم من دراسة بعض التخصصات الدقيقة، وحرمانهم من المميزات التي ينالها زملاؤهم.

أما الكلام عن المطالبة بتجريد المسلمين من ثرواتهم، فربما كان من تجلياتها تلك الدعوى التي رفعت مؤخراً ضمن 80 من المؤسسات والشخصيات الاسلامية باسم الف من عائلات ضحايا تفجيرات نيويورك، والمطالبة بتعويضات تجاوزت تريليون دولار. وقد تزامنت تلك الدعوى مع أصوات أخرى طالبت بتجميد الودائع السعودية في الولايات المتحدة حتى يتم الفصل في قضية التعويض.

الفكرة التي نشير اليها تحدث عنها صراحة جيمس روبن الديمقراطي، الذي كان متحدثاً باسم الخارجية الأمريكية في عهد كلينتون، الرئيس السابق، حين كتب مقالاً في صحيفة «الغارديان» البريطانية، نقلت عنها بعض الصحف الأمريكية تضمن نصيحة للعالم الغربي، بأن يعملوا على افقار المسلمين وكسر أنوفهم، لأنهم كلما تحرروا أو اغتنوا تمردوا.

يذكر في هذا الصدد ان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق كان قد قال صراحة أمام الكونغرس الأمريكي ان القضاء على الاسلاميين «المتطرفين» يستلزم القضاء على الثروة في بلاد الخليج، وإفقار سكانه. وذكر في هذا الصدد أن القضاء على البعوض لا يتم بقتل واحدة، ولكنه يستلزم تجفيف المستنقع ذاته.

دعوة الافقار هذه رددتها أصوات عدة، فقد كتب دانيال بايبس في مجلات عدة، منها «ناشيونال انترست» يرد على فكرة عامل الفقر، الذي ذكر البعض أنه سبب الاحباط و«الارهاب» في فلسطين وغيرها، فقال ان تجويع المسلمين يفتح الباب للقضاء على الارهاب، وان سبب صعوده هو المال والثروة، وقد أصبحت كتابات عدة تستشهد بكلامه، وهي تحض على التحذير من أخطار المال الاسلامي.

انهم لا يزالون يريدون ان يدفع الاسلام والمسلمون جميعاً ثمن ما جرى، حتى وإن لم يكن به صلة. وليس ذلك اعجب ما في الأمر، لأن الأعجب انهم يقدمون انفسهم بحسبانهم رواداً في اقامة العدل وأساتذة لليبرالية وحماة لحقوق الانسان.