أمريكا والعراق: قبل أحداث سبتمبر وبعدها

TT

الآن وبعد مرور احد عشر عاما على تحرير الكويت، وبعد انقضاء سنة على تفجيرات سبتمبر، تبدو واشنطن اكثر من اي وقت مضى مصرة على ضرب العراق واسقاط نظام صدام، فلماذا؟

ان قصة امريكا مع العراق طويلة، وتعود الى الثمانينات الميلادية، حيث كانت واشنطن تدعم العراق بطريقة غير مباشرة في حربه مع ايران. وبعد انتهاء الحرب بفترة وجيزة امر صدام قواته بالهجوم على الكويت، وظن انه قادر على اقناع امريكا بأن مصالحها في المنطقة لن تتأثر باحتلاله للكويت، وان اعتماد امريكا عليه ـ بوصفه الرجل القوي في المنطقة كلها ـ سيكون أفضل لمصالحها في المدى الطويل من تعاملها مع زعماء دول مجلس التعاون.

ولكن صدام فشل عندئذ في اقناع امريكا بالضمانات التي قدمها لها ووجد نفسه في ورطة لم يعرف كيف يخرج منها بالشكل الصحيح وقادته الى حرب خاسرة ومدمرة.

وبعد تحرير الكويت امتنعت امريكا عن اسقاط صدام، واتضح ذلك في رفضها لدعم انتفاضة الشيعة في الجنوب والاكراد في الشمال وفي عدم قيامها بتدمير قوات الحرس الجمهوري المرابطة حول بغداد، ولسماحها لصدام في اتفاقية صفوان بالاحتفاظ ببعض عناصر القوة التي مكنته من احكام قبضته على العراق. وتساءل العديد من المحللين السياسيين عندئذ عن سبب الموقف الامريكي في التعامل مع العراق.

وظهرت عشرات الآراء والتحاليل والتي يمكن تلخيصها في نظريتين رئيسيتين:

الاولى هي نظرية المؤامرة ومفادها ان واشنطن قررت الابقاء على نظام صدام لكي يبقى عنصر خطر في المنطقة تعتمد عليه بطريقة غير مباشرة لتخويف دول مجلس التعاون وابتزازها ودفعها نحو المزيد من الاعتماد على الحماية الامريكية لمواجهة الاخطار الاقليمية وفي مقدمتها الخطر العراقي. واما النظرية الثانية فلقد رأت ان امتناع واشنطن عن اسقاط صدام بعد حرب تحرير الكويت يمكن ان يرد الى اربعة اسباب رئيسية:

1 ـ الخوف من قيام دولة شيعية في جنوب العراق تتبع للهيمنة الايرانية، والخوف من قيام دولة كردية معادية لتركيا في الشمال.

2 ـ ان اسقاط نظام صدام يتطلب احتلال بغداد والذي قد يؤدي الى مقتل آلاف الجنود الامريكيين وعشرات الآلاف من المدنيين العراقيين.

3 ـ الرفض العربي والدولي لعملية اقتحام بغداد واسقاط نظام صدام بالقوة.

4 ـ اعتقاد الحكومة الامريكية بأن نظام صدام سوف يسقط نتيجة ثورة او انقلاب خلال سنة واحدة على الاكثر من تحرير الكويت.

ولكن صدام لم يسقط. وسواء كانت نظرية المؤامرة صحيحة ام غير صحيحة فلقد وجدت واشنطن نفسها في ورطة مع صدام اشد من ورطته التي وضع نفسه بها بعد احتلاله للكويت. واصبحت قضية العراق تتضمن ورطتين بدل الورطة الواحدة. ورطة صدام مع امريكا وورطة امريكا مع صدام. وخلال السنوات العشر التي اعقبت تحرير الكويت كان العراق يستنجد بالامم المتحدة وبالجامعة العربية وبالعالم اجمع لمساعدته في ورطته مع امريكا وكانت امريكا بدورها تحاول الحصول على دعم بريطانيا واوربا والامم المتحدة للتخلص من ورطتها مع العراق. كما كانت تقوم بين الفترة والأخرى بتوجيه ضربات عسكرية جوية للعراق عندما كانت الحاجة تستدعي ذلك. هكذا بقيت استراتيجية واشنطن في التعامل مع العراق مدة العشر سنوات التي اعقبت حرب تحرير الكويت. ولكن تأثير تفجيرات سبتمبر وزيادة نفوذ الصقور في ادارة الرئيس بوش قد اديا الى تغير الموقف الامريكي في التعامل مع العراق، وجعلا واشنطن تهتم بانهاء ورطتها مع صدام ولو باستخدام القوة. وبدا ذلك واضحا في السلوك الامريكي تجاه العراق منذ الاسابيع الاولى التي اعقبت تفجيرات سبتمبر. فلقد جاء تشيني الى الشرق الاوسط لكي يقنع الزعماء العرب بدعم امريكا في عملية اسقاط صدام ولكن الزعماء العرب رفضوا الاستجابة لمطلبه واخبروه ان اولويات امن المنطقة تتطلب وقف العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني وليس اسقاط صدام. وعاد تشيني الى واشنطن بخفي حنين وازدادت صعوبة الموقف الامريكي في التعامل مع العراق، ليس فقط بسبب الرفض العربي لضرب صدام ولكن بسبب المعارضة الاوربية ايضا لهذا التوجه. ولكن بالرغم من الاصرار العربي على رفض السياسة الامريكية تجاه العراق ومن تمسك كل من روسيا والصين واوربا بمعارضتها لهذه السياسة، وبالرغم من الغضب الجماهيري العربي والاسلامي من تهديد واشنطن للعراق في الوقت الذي تقدم فيه الدعم لشارون، بالرغم من ذلك كله تبدو ادارة الرئيس بوش مصرة على ضرب العراق واسقاط نظام صدام. فلماذا هذا الاصرار الامريكي على اتخاذ هذا الموقف ضد العراق؟

هناك مجموعة من الاسباب التي يمكن ان تساعدنا في تفسير التوجه الامريكي نحو العراق:

1 ـ بعد سيطرة الصقور على ادارة الرئيس بوش وقبل احداث 11 سبتمبر بدأت السياسة الامريكية تعمل على تأكيد وتجسيد احادية السيطرة الامريكية على العالم واتضح ذلك في مجموعة من المواقف والسياسات ومن اهمها قيام واشنطن بالغاء اتفاقية الصواريخ الاستراتيجية مع روسيا والاعلان عن سياسة بوش في انشاء شبكة الدفاع الصاروخية الموجهة ـ كما ذكر بوش ـ ضد الانظمة الخارجة على القانون في العالم مثل العراق وكوريا الشمالية. وان من شأن فشل امريكا في تنفيذ سياستها ـ تجاه العراق ـ من وجهة نظر صقور واشنطن ـ ان يشجع دولا أخرى مثل كوريا الشمالية وكوبا وايران والصين على تحدي المصالح والسياسات الامريكية في العالم. ولهذا فإن الفشل في التعامل مع العراق ـ كما يُقال للرئيس بوش من قبل صقور واشنطن ـ يعتبر فشلا للسياسة الامريكية الجديدة كلها وهو امر غير مقبول في واشنطن.

2 ـ لقد أدت احداث 11 سبتمبر الى تقوية موقف صقور واشنطن الذين اصبحوا بسبب رعب 11 سبتمبر اكثر تشددا في التمسك بضرب العراق فلقد نشأ في امريكا بعد 11 سبتمبر تخوف عام من نجاح احدى المجموعات الارهابية بتنفيذ عملية كبيرة بداخل امريكا تشتمل استخدام اسلحة جرثومية او كيماوية او ذرية وتؤدي الى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الامريكيين. وما دامت هناك قناعة امريكية بأن من شأن بقاء صدام في الحكم ان يساعد على زيادة احتمال وقوع هذا الخطر ولو بنسبة واحد في الالف، فان رغبة واشنطن في ضرب صدام سوف تستمر حتى ولو ان امريكا لا تملك اي دليل مادي ملموس تثبت فيه امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل او محاولته تطويرها.

وهذا هو السبب الرئيسي في نظري الذي يحدد سياسة واشنطن تجاه العراق. وكلما نجح العراق في تطمين مختلف فئات الشعب الامريكي بأنه لن يكون عنصرا مساعدا لتنفيذ اي عمليات ارهابية ضد امريكا، ازدادت صعوبة مهمة صقور امريكا في اقناع المجتمع الامريكي بضرب صدام.

3 ـ واضافة الى هذين السببين الرئيسيين، يمكن اضافة النقاط التي وردت في تقرير راند الذي تم اعداده لارضاء اعداء السعودية في امريكا، فمن شأن اسقاط صدام ان يؤدي ـ وفق تقرير راند ـ الى اقامة حكومة عراقية تابعة لواشنطن يتم الاعتماد عليها لاضعاف السعودية عربيا ودوليا. ويبقى هذا السبب سببا اضافيا يهدف الى كسب المزيد من الدعم لخطة ضرب صدام بين فئات في المجتمع الامريكي ليست بالضرورة من الصقور ولكنها معروفة بمواقفها المعادية للسعودية بسبب معارضتها القوية لسياسة شارون ضد الفلسطينيين.