النبي نوح وأحداث سبتمبر!

TT

خلال العام الماضي ذكر لي العديد من الاصدقاء انهم ما زالوا يشعرون بحرقة في قلوبهم بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001. وقالت واحدة منهم انها تشعر بأن ذلك بداية نهاية العالم، ولا عجب. فهؤلاء الانتحاريون كانوا اشرارا بدرجة حطمت ايمانك بالبشرية، وبجدار الحضارة الذي كان من المفروض ان يحد من اسوأ السلوكات البشرية. واصبحت هناك هوة كبيرة في هذا الجدار.

ماذا نفعل: من اجل التوجيه الروحي لجأت الى واحد من رعاتي، الحاخام تزفي ماركس، الذي يتولى التدريس في هولندا، فقدم لي تحليلا انجيليا. «نشعر بعد احداث 11 سبتمبر وكأننا تعرضنا لطوفان النبي نوح» ـ وكأن الطوفان قد اغرق حضارتنا واننا الباقون على قيد الحياة. ماذا نفعل في اليوم التالي؟

ان قصة النبي نوح يمكن ان تقدم الينا الكثير. وسأل تزفي «ما هو اول ما فعله نوح عندما انخفض منسوب الطوفان وخرج من سفينته؟» ويرد تزفي نفسه «زرع كرمة وصنع نبيذا وسكراً» كان اول رد فعل لنوح بالنسبة لدمار البشرية الناجم عن الطوفان والتحدي الذي يواجهه الان، هو تخدير نفسه هربا من العالم.

ويمضي تزفي في تساؤلاته: «لكن ماذا كان رد فعل الرب تجاه الفيضان؟» ويرد على السؤال «العكس تماما، كان رد فعل الرب هو تقديم مجموعة تفصيلية من القوانين لنوح لكي تعيش بها البشرية، وهي اجراءات نعرفها الان باسم قوانين نوح. وكان القانون الاول هو ان الحياة ثمينة، ولذا يجب على الانسان ألا يقتل الانسان.» (تطورت قوانين نوح فيما بعد واصبحت تشمل التحريم ضد الوثنية والزنا والزندقة والسرقة).

امر مثير للاهتمام، فقد كان المتوقع بعد القضاء على البشرية بطوفان هائل ان تكون اول افعال الرب بعد الطوفان ليس تعليمنا ان كل انواع الحياة ثمينة، ولكن هذا ما حدث. ويوضح تزفي: «كأنه ذكر «الان افهم ما اواجهه ضد هؤلاء البشر. انا في حاجة الى ان اضع لهم بعض الحدود السلوكية الواضحة للغاية، ومجموعة في غاية الوضوح من القيم والتقاليد، يمكن لهم استيعابها وان تصبح جزءاً من ذواتهم».

وهنا تبدأ المقارنة مع ما حدث، فبعد احداث 11 سبتمبر اصبح امامنا اختياران: يمكننا تخدير انفسنا، وسد آذاننا، او يمكننا محاولة إصلاح هذه الهوة في جدار البشرية بالاصرار، بحزم وبصوت اكثر ارتفاعا من قبل، على المعايير والاجراءات بالنسبة لنا وبالنسبة للآخرين.

واشار تزفي «لقد رفض الرب بعد الطوفان، ان يسمح لذرية نوح بالهرب، ولكنه رفض ايضا ان يمنحهم رخصة للحياة بلا حدود اخلاقية، لمجرد ان البشرية فشلت آنذاك».

وينطبق نفس الامر علينا. نعم يجب قتل القتلة الذين يقفون وراء احداث 11 سبتمبر، ولكن بدون ان نصبح قتلة انفسنا وبدون ان نغمس في ذلك. يجب ان ندافع عن انفسنا بدون ان نتخلى عن حرياتنا المدنية في الداخل، وبدون حرمان كل طالب مسلم من دخول هذا البلد، وبدون نسيان الظلال الهائلة التي تفرضها اميركا القوية على العالم. وكيف يمكنها جعل الناس تشعر بالعجز، وبدون ابلاغ العالم اننا سنفعل ما نريده لان العالم تعرض لطوفان وان كل الرهانات اصبحت ملغية.

ان فرض المعايير والقواعد على انفسنا يمنحنا المصداقية لمطالبة الاخرين بها، ويمنحنا المصداقية للمطالبة بحكم القانون والتسامح الديني ونظام الحكم القائم على التراضي ونقد الذات والجماعية وحقوق المرأة واحترام فكرة ان احزاني بغض النظر عن عمقها لا تمنحني الحق في فعل اي شيء لاي شخص في اي مكان.

ان هذه المعايير والقواعد تمنحنا المصداقية للقول للعالم الاسلامي: «اين انتم منذ 11 سبتمبر؟ اين صوت العقل؟ انتم تبدأون صلاتكم باسم الله الرحمن الرحيم، ولكن عندما يتصرف عدد من ابناء عقيدتكم، بإسم الاسلام، ويقتلون الاميركيين او يرتكبون عمليات انتحارية ضد «الكفار» تمتدحهم صحافتكم كشهداء، بينما يصمت قادتكم الروحيون. وفيما عدا بعض الادانات الروتينية، فإنهم لم يحتجوا في مساجدهم، ولم يضعوا خطوطا حمراء اخلاقية في مدارسهم. هذه مشكلة لانه اذا لم يكن هناك صراع داخل الاسلام ـ بخصوص المعايير والقيم ـ فسيحدث صراع بين الاسلام وبيننا.

وباختصار، تخدير انفسنا بخصوص حقائق ما بعد 11 سبتمبر لن يؤدي الى نتيجة، كما ان العمليات العسكرية، بالرغم من ضرورتها، ليست كافية. ان بناء جدران عالية يمكن ان تكون مريحة، ولكن في عالم اليوم المتشابك هي سراب. ان املنا الوحيد هو انه يمكن تقييد البشر بالجدران الذاتية والمعايير والقيم.

ان فرض تلك القيم والمعايير والجدران الذاتية على انفسنا بوضوح، والمطالبة بها من الآخرين هو استراتيجية البقاء الوحيدة القابلة للتطبيق في كوكبنا المنكمش

وإلا فسنضطر لبناء سفينة.

* «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»