هل تردع «جراثيم» صدام صواريخ بوش؟

TT

ما من شك في ان صدام قد اربك اميركا، واثار جدلا واسعا، ليس في داخلها عموما فحسب، بل بين صفوف الحزب الجمهوري الحاكم، وبين فريقي الرئيس الاب والرئيس الابن، وبين الجنرالات وسلطة السياسيين في وزارة الدفاع.

فمنذ عدة اشهر والرئيس الاميركي يهدد ويتوعد ولا شيء عمليا على الارض، ولا تحضيرات تدل على عمل بري وشيك. ألا يعكس ذلك ارباكا حقيقيا؟ وهل يمكن لفوضى كهذه (على حد وصف السفير الاميركي السابق لدى الامم المتحدة) ان تقود الى قرار حاسم بخوض حرب يراد لها ان تحدث تغييرات هائلة في خارطة المنطقة والعالم؟ وهل ستتخذ امة ديموقراطية قرار حرب هجومية رغم معارضة جنرالاتها؟ ومتى اختلف الفكر وفهم قواعد الحرب بين جنرالات متقاعدين خاضوا حروبا كبرى، وترأسوا قيادات اساسية، وشغلوا اعلى المناصب الامنية، وجنرالات في الخدمة لا يحق لهم ابداء ملاحظاتهم علنا؟ وهل يجوز اتهام وزير الخارجية، الجنرال كولن باول، والجنرالات، وزيني، وسكوكروفت، وكلارك، الذين حملوا اوسمة بلادهم في الحروب الحديثة، بالسذاجة أو الجهل، أو بالعمالة لصدام، او بتلقي الرشوة من مال الخليج مثلا؟ وهل يمكن اتهامهم بالجبن والتخاذل وفق المسميات الثورجية؟ وفي المقابل هل سيتهم هؤلاء، الطرف الآخر في بلادهم، بالدكتاتورية والانفراد في اتخاذ القرار والسطحية وقصر النظر وعدم المسؤولية؟

وبين ليلة وضحاها تحول الخليج، الذي كان يتمنى افول نجم صدام الى معارض لضربة يفترض انها ستطيح به، وامتدت المتغيرات، كما نقرأ ونسمع، الى الكويت ذاتها، حيث بات الكويتيون، او كثيرون منهم، يخشون مما سيحصل، وربما فضلوا بقاء عدو محتوى على وضع لا تعرف مؤدياته. واصبح الخليج كله (افتراضا) خارج دائرة انتقام صدام حسين في حال حصول ضربة.

إرباك في الـ متى

لقد منحت السياسة الاميركية النظام في العراق فرصة تاريخية للاستعداد للحرب، وربما لم تحصل دولة في التاريخ الحديث على فسحة زمنية لترتيب اوضاعها مثلما حصل عليه العراق، فمنذ عام تقريبا، والكتابات تشير الى بغداد، ومنذ اشهر والادارة الاميركية تشهر سيف الحرب علنا مع تحديد الهدف، وهو خطأ استراتيجي فادح وفق كل القياسات العسكرية والاستخبارية والسياسية للأسباب التالية:

ـ اتاحة الفرصة للعراق لاستكمال استحضارات الحرب.

ـ انتاج اكثر ما يمكن من اسلحة الدمار الشامل العراقية، مما يشكل اعباء اضافية على مقرري سياسة الحرب في الادارة الاميركية، خصوصا العسكريين منهم. بحكم ما تفرضه اسلحة الدمار من تقبل لخسائر بشرية غير عادية لا تتحدد بمكان بعينه ولا بظرف يمكن تفاديه، وهو أمر يثير فزع الاميركيين.

ـ اتاحة الفرصة للقيادة العراقية للمناورة خارجيا واستغلال قدرات البلد المالية وثرواته النفطية، للمساومة مع دول تؤثر في سير الاحداث.

ـ تزايد المعارضة الدولية عموما، والاوروبية تحديدا، للاستراتيجية الاميركية، وظهور اتهامات بمحاولة واشنطن السيطرة على منابع النفط الرئيسية، لضمان امدادات الطاقة اليها لمدة لا تقل عن خمسين عاما، ريثما تتوافر مصادر بديلة للنفط.

إرباك في الـ كيف

وليت الارباك قد بقي ضمن اطار التوقيت، بل تعداه الى الكيفية التي ستتم بها معالجة الأزمة، فبات الاميركيون حائرين، ابتداء من قمة اوكار الصقور الى اعشاش الحمائم، حول سيناريوهات الحرب واختيار مسالك العمل، ففي لقائه مع وفد من معارضين عراقيين حضروا اجتماعات واشنطن الشهر الماضي، لم يخف وزير الدفاع الاميركي، دونالد رامسفيلد، قلقه من احتمال نشر صدام لقوات النخبة من الحرس الجمهوري والجيش وتشكيلات الحرس الخاص والاجهزة في بغداد، وتحويلها الى قلعة من النار والسلاح والرجال، فكيف يمكن اختراقها؟ وهل تتمكن المعارضة من تثوير الناس داخل بغداد؟ وقيل مرة بعزل البصرة، واخرى بعزل الموصل، وثالثة بصولة جوية نحو البادية الغربية، والاستيلاء على مطارات غرب الفرات تمهيدا للاندفاع الى بغداد. وقيل بغداد اولا، اذن هكذا تجري الحسابات. وهي حسابات طبيعية من الناحية العسكرية، لكنها لا تدور في فلك الأزمة ولا تقدم حلولا للمعضلات الكبرى.

أربع معضلات كبيرة

يتضمن الملف العراقي معضلات عديدة يتصدرها تهديد اسلحة الدمار الشامل، ومفاجآت صدام، وتشجيع التنافر، والتدخلات الاقليمية المرجحة، وكل واحدة من هذه المعضلات كان على الادارة الاميركية دراستها بعناية، لا ان تشكل لجانا لدراسة مواضيع تتعلق بالنفط والماء واقتصاد السوق، او لجنة يزايد فيها (عراقيون) في كيفية تهميش الجيش واستبدال بدلات القتال عندما تستلزم الحال الدفاع المشروع، بفوط العجائز (غطاء رأس النسوة سابقا). ومثل هذه المعضلات ترتبط ارتباطا مباشرا بعملية التغيير على اساس الحرب.

ففي مجال اسلحة الدمار الشامل، ربما يمكن حماية اسرائيل من خلال القيام بصولة جوية لاحتلال المنطقة الغربية، وبالتالي تصبح اسرائيل خارج مدى الصواريخ العراقية، لكن ماذا عن المدن العراقية؟ وهل علينا ان نتوقع ان صدام قد غير عقيدته القائلة إنه لن يسلم العراق إلا ارضا محروقة؟ وهي (عقيدة) يرددها كل العراقيين.

ووفقا لوجهة النقاشات الجارية في الولايات المتحدة، فإن القلق بدأ يساور بعض الاطراف الاميركية من ردود فعل النظام في حال خروج مدينة كبيرة عليه (ولن يقوى في حرب كهذه على استعادتها) واطلق صاروخا بيولوجيا واحدا عليها، او صاروخا محملا بغاز الاعصاب القاتل VX. فكيف ستكون الحال؟ الا يتسبب ذلك في نزوح ملايين الناس الى الدول المجاورة من مختلف مدن العراق؟ وهل دفع هذا التصور الحكومة الايرانية الى القول إنهم لن يسمحوا هذه المرة بدخول لاجئين عراقيين الى بلادهم، بل ستتخذ الحكومة الايرانية اللازم داخل الاراضي العراقية؟ وهل ادرك الاتراك احتمالات هجرة مليونية، قد تحصل وقد لا تحصل، فنشروا قوات على الحدود واخرى في شمال العراق؟

أما الدول العربية فأعانها الله حيث لاتزال اجراءات بعضها بمستوى الصفر.

الرئيس الاميركي السابق، بيل كلينتون، حذر من احتمالات استخدام العراق اسلحة الدمار ضد اميركا وحلفائها، لكنه لم يتطرق الى الشعب العراقي، الحلقة الاضعف والاخطر. وطرف معارض عراقي قدم في واشنطن وثيقة تشير الى استعداد بغداد لاستخدام اسلحة الدمار..، الا ان بعض البارزين من المعارضين، يتجاهلون هذه الاحداث المرعبة (في حال وقوعها)، ونسوا ان المسؤولية ستلاحقهم في العراق بعد صدام. ربما سيخرج علينا من لا اهل له هناك ليقول ان هذه افكار تستهدف اثارة الفزع. فنرد عليه: هذه افكار وقواعد في الحسابات الاستخبارية العليا ينبغي التحسب لها وتداركها مسبقا.

كيف السبيل؟

اولا: لا حل سحريا للأزمة، فهي معقدة بما فيه الكفاية، ومع ذلك لا ينبغي ان تتحول الى استراتيجيات غير نابعة من المصالح المحلية. وفي الوقت نفسه لا بد من حدوث تغيير للنظام في العراق بطريقة علمية وعقلانية وبأقل الخسائر، وبعيدا عن العقاب الجماعي حتى ان كان غير متعمد.

ثانيا: استبعاد فكرة العمل العسكري الواسع اجتياحا كان ام أفغنة.

ثالثا: تفريد الخصم واستهدافه بوسائل سياسية واستخبارية.. الخ.

رابعا: عدم التدخل في خيارات الشعب العراقي بعد صدام.

ووفقا لهذا العرض المقتضب، يمكن القول ان بيولوجيات صدام قد ردعت صواريخ بوش (حتى الآن)، ومن المرجح تزايد الضغوط السياسية على العراق لاعادة المفتشين وفي عودتهم تبقى الكرة سابحة في الفضاء الى حين، وإذا لم يخضع، فعلى اجهزة الاستخبارات في الدول المعنية أن تأخذ في حساباتها انه عازم على استخدام اسلحته التدميرية، ضد المدنيين والعسكريين على حد سواء. والحالتان الوحيدتان اللتان يستبعد فيهما استخدام اسلحة الدمار الشامل هما: عملية نقطوية خاطفة، أو ضربات لا تدخل تحت سقف اسقاط النظام.

المجابهة قادمة يوما ما، ولا احد يدري من اي شكل ستكون، وإذا لم تراع فيها السرعة الخاطفة وتضييق مساحة العمل الى حد يجعلها (نقطوية) فالله يستر مما هو آت.