افتح يا تاريخ

TT

«نهاية التاريخ ما كان يجب ان تكون على هذا الشكل» والحق على التاريخ، وليس على فرانسيس فوكوياما صاحب العبارة «الحديثة» المقوسة، فالتاريخ لم يكن عبدا مطيعا لفوكوياما ورهطه، فقد قرر ان يسير الى ابعد من المحطة التي حددوها له، وبما انهم لا يعتذرون عن اخطائهم فعليه ان يعتذر لانه كذب ظنهم وبذا ينضم الى الفئة الصامتة من ضحايا الارهاب الفكري الاميركي الذين يعرفون انهم على حق ويسكتون الى ان تمر هذه الموجة الرهيبة من التضليل والتهديد.

ولم يقل فوكوياما في مقاله الجديد انه اخطأ، فالاميركيون بعسكرهم ومفكريهم لا يخطئون لكنه رسم صورة جديدة لمستقبل العالم اضاف بموجبها اوروبا الى قائمة الاعداء ولم يستثن بريطانيا وبذا يتحول شعار The west and the rest الى U.S. A and The rest.

والكليشيه التصميمي من صياغة مفكر نهاية التاريخ فوكوياما الذي يدور على عقبيه دورة كاملة ليلاحظ حين اتسعت حدقة الرؤية بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) ان التحدي الايديولوجي الاسلامي ليس خطيرا كما كانوا يتوقعون وخصوصا صديقه اللدود هنتنجتون، فالاسلام لا يقدم الكثير لغير المسلمين!! وكذلك فإن اخطار من يمتلكون اسلحة الدمار الشامل في الشرق مؤقتة، فالبؤرة المركزية، للصراعات السياسية العالمية ستظل في قلب الحداثة الغربية وتشعباتها على الضفة الاخرى للاطلسي.

ان مصطلح الغرب كما يؤكد فوكوياما في مقاله المنشور بـ«الجارديان» البريطانية (7 ـ 9 ـ 2002) لم يعد يؤدي ذات المدلول الذي حمله منذ ايام الحرب الباردة، فالشروخ واضحة وعميقة بين اوروبا واميركا، وبداية ظهور تلك الشروخ كانت خطبة الرئيس الاميركي عن محور الشر axis of evilفي يناير (كانون الثاني) الماضي ثم تكاثرت بعدها الخلافات التي يحصيها الكاتب بدقة، فهناك خلاف على اتفاقية «كيوتو» وعلى اتفاقية «ريو» وعلى اتفاقيات الصواريخ البالاستية والدفاعية والالغام الارضية ثم الخلاف على معاملة اسرى القاعدة في «غوانتانامو» واخيرا عدم تصديق اميركا على مشروع محكمة الجنايات الدولية.

ولا يقول فوكوياما صراحة ان اوروبا ترفض ان تكون ذيلا اميركيا للابد لكنه يشير الى امكانياتها المتفوقة بشريا وماديا على اميركا، فهي تضم 375 مليونا من البشر مقابل 280 لاميركا وتنتج عشرة تريليونات تقابلها انتاجية اميركية تقدر بسبعة تريليونات فقط، وفي حين تنفق اوروبا قاطبة 130 بليون دولار على التسلح وتخفض ذلك باطراد، تنفق الولايات المتحدة ثلاثمائة بليون سنويا قابلة للزيادة باستمرار وخصوصا بعد حملة مكافحة الارهاب الدولية.

ان اوروبا ـ والرأي لفوكوياما ـ لا ترى في الرئيس العراقي تهديدا خطيرا، ولا تنظر الى التطرف الاسلامي كخطر عظيم. وتعتقد القارة الاوروبية ان ما حصل للاميركيين كان بسبب سياستهم في الخليج والشرق الأوسط ودفاعهم المستميت عن اسرائيل وتصرفاتها العدوانية وخروجها على الشرعية الدولية قبل العراق.

وفي الوقت الذي تتفق فيه اوروبا على اسس ثابتة للشرعية الدولية تم ترسيخها عبر نصف قرن، تقفز السياسة الخارجية الاميركية لتلغي هذه الشرعية وتتصرف منفردة ليس في منطقة واحدة وحادث بعينه لكنها توحي بأن سياستها الخارجية هي البديل للشرعية الدولية ولا تحدد تاريخا لانتهاء هذا الاختطاف الاستثنائي وهذا ما يزعج قادة الرأي، وصناع القرار في القارة الاوروبية الغاضبة.

اوروبا إذاً اقرب في الرؤية لبقية العالم من اميركا والصراع القادم سيكون اوروبيا ـ اميركيا، ولم ينطق فوكوياما بكلمة واحدة عن الصين ليوحي بأنها قد تقف كبقية دول العالم على الحياد امام صراع اصدقاء الامس على مستقبل اجيال الغد.

ولو كتب هذا الكلام مفكر عربي او ايراني او هندي او صيني لقيل انه يحاول دق الاسافين بين اهل الحلف الصامد للديمقراطيات الغربية المنتصرة. اما ان يصدر عن فوكوياما الذي يعيد مرغما فتح كتاب التاريخ وكأنه بوابة سمسم، فمسألة تستحق اكثر من التنويه واخذ العلم، فللمرة الاولى في تاريخ الفكر الحديث منذ سقوط الاتحاد السوفيتي ينزل الذين كانوا يتلقون الاعترافات الى كرسي الاعتراف ليعترفوا بان تصنيف «البلطجة الاميركية» خارج نطاق الشرعية الدولية ليس اسيويا ولا اسلاميا، ولا افريقيا فحسب، ولكنه يأتي من قلب ام الديمقراطيات الغربية اوروبا التي صاغت مع الاميركيين مؤسسات الشرعية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، واضطرت اخيرا للدفاع عنها قبل ان تفقد ما تبقى من ماء وجهها الذي يراق بكثافة مزعجة في كل ازمة دولية ساخنة.