أميركا مطلقة الهيمنة مطلقة العزلة أيضا

TT

بعد عام من 11سبتمبر أصبح اهم معلم في السياسة الدولية هو ان اميركا صارت مطلقة الهيمنة ومطلقة العزلة. لقد انبثق بعد 11سبتمبر تعاطف هائل وعفوي مع الولايات المتحدة ومع الاميركيين في كل مكان في العالم. ولكن مع ظهور الهيمنة العسكرية الاميركية خلال طرد منظمة القاعدة وطالبان من افغانستان، ومع صياغة مبدأ الرئيس بوش حول الضربات الوقائية ضد «محور الشر»، بدأت تظهر نزعات من العداوة المستجدة لاميركا. ولا يمكن ان يكون الاميركيون مسؤولين عن اعتقاد غالبية العالم ان القوة الاميركية، وليس الارهابيين المزودين باسلحة الدمار الشامل، هي التي تزعزع الاستقرار العالمي. ولا تنتشر مثل هذه الآراء في أي مكان في العالم مثلما تنتشر وسط حلفاء اميركا الاوروبيين.

خاضت الولايات المتحدة الحرب الباردة كقائدة للديمقراطيات الغربية، منطلقة من قيم ومؤسسات مشتركة. فما الذي يحدث هنا؟ هل ما يزال «الغرب» موجودا كمفهوم ذي معنى؟

في اعتقادي ان اختلافات عميقة بدأت في الظهور بين الديمقراطيات الغربية حول موضوع الشرعية الديمقراطية على المستوى الدولي، وان هذه الخلافات ستسبب آلاما عميقة في تعامل الولايات المتحدة مع العالم خلال السنوات المقبلة. ولذلك فان التغلب على العقبات، والحيلولة دون ان تصبح معارضة السياسات الاميركية هي النزعة الطاغية في السياسة الدولية، ينبغي ان تكون هي الهموم بالنسبة لواشنطن.

القضايا الواضحة التي ثار حولها الجدل بين الولايات المتحدة واوروبا، منذ خطاب «محور الشر»، تدور في اغلب الاحيان حول النزعة الانفرادية الاميركية المزعومة وعلاقتها بالقانون الدولي. وقد اصبحت قائمة الاعتراضات الاوروبية على السياسة الاميركية مألوفة حاليا، بما فيها امتناع ادارة بوش عن التوقيع على اتفاقية كيوتو حول الاحتباس الحراري، وانسحابها من اتفاقية منع انتشار الاسلحة، وسعيها لاقامة الدرع الصاروخي، ومعارضتها لحظر استخدام الالغام الارضية ولاتفاقية منع الاسلحة البيولوجية، واخيرا معارضتها للمحكمة الجزائية الدولية. ولكن قائمة الاعتراضات الاوروبية لا تتوقف هنا بالطبع، فالنسبة للاوروبيين كان اخطر الامثلة على النزعة الانفرادية الاميركية، النوايا المعلنة لادارة بوش لتغيير النظام العراقي، حتى لو اضطرت لأن تفعل ذلك منفردة.

يحاجج الاوروبيون بانهم يريدون اقامة نظام عالمي خاضع للقانون، وقد اثار رعبهم اعلان الادارة الاميركية بانها تنوي اتباع عقيدة سياسية غير خاضعة للقيود، قائمة على الضربات الوقائية ضد الارهابيين وضد الدول الداعمة للارهاب. وأول ما يمكن ان نقوله عن هذا الخلاف حول دور القانون الدولي والمؤسسات الدولية، اننا يجب الا نتبنى بصورة مسبقة، الحكمة التقليدية حول انفرادية الاميركيين وتعددية الاوروبيين. فاذا أخذنا في الاعتبار الجوانب الاقتصادية فان الولايات المتحدة قد لعبت دورا اساسيا في خلق سلسلة من المؤسسات الاقتصادية العالمية المتعددة الاطراف، بدءا بالبنك الدولي، وانتهاء بمجموعة من المنظمات المتخصصة في رفع المستويات، وسلامة الملاحة الجوية والاتصالات المصرفية السريعة، ومكافحة المخدرات، الى غير ذلك. وفي هذه المجالات ربما كان الاوروبيون اكثر انفرادية من الولايات المتحدة، اذ قاوموا احكاما اصدرتها مجالس تحكيم حول بعض قضايا التجارة الدولية، وفرضوا على الشركات الاميركية من طرف واحد سياساتهم حول الاغذية المعالجة جينيا وسرية المعلومات وغيرها من القضايا المشابهة. وباستثناء الاتفاقيات حول البيئة مثل بروتوكول كيوتو، فان اغلب القضايا التي يكون الاميركيون اكثر انفرادية فيها هي المتعلقة بالامن.

وربما يكون مغريا القول بان هذا يرجع الى منهج ادارة بوش الفظ تجاه بعض القضايا العالمية مثل محكمة الجزاءات الدولية، لولا ان الأمر ينطوي على قضية مبدئية اكثر عمقا من ذلك. ويمكن ان نضع هذه المسألة بصورة تقريبية على النحو التالي، وهو ان الاميركيين لا يرون أي مصدر للشرعية اعلى قدرا من الدولة القومية. وبالتالي فان المؤسسات الدولية تتمتع بقدر من الشرعية مساو تماما لما تخوله لها اغلبيات منتخبة ديمقراطيا، من خلال عملية تعاقدية متفق عليها. ويمكن لهذه الاغلبيات المنتخبة سحب هذه الشرعية متى ما رأت ذلك ضروريا. وعلى العكس من ذلك يعتقد الاوروبيون ان الشرعية الديمقراطية تنبع من ارادة مجتمع عالمي اكبر من كل دولة قومية على حدة. ولا يتجسد هذا المجتمع العالمي في نظام دستوري عالمي موحد. ومع ذلك فان هذا النظام العالمي هو الذي يصبغ الشرعية على المؤسسات الدولية الموجودة، التي تعتبر مجسدة له، ويعطيها سلطة اخلاقية اعلى مما تملكه اية دولة قومية.

وعند النظر الى هذين المفهومين حول مصدر الشرعية الديمقراطية، نجد ان الاوروبيين مصيبون نظريا ولكنهم مخطئون عمليا. فمن المستحيل ان ندعي من حيث المبدأ ان الديمقراطية الليبرالية، الكاملة الشرعية، لا يمكن ان ترتكب الاخطاء الجسيمة، او حتى لا تستطيع ان ترتكب جرائم ضد الانسانية. ولكن الفكرة الاوروبية حول ان الشرعية تنبع وتتنزل من مجتمع دولي خال من الصفات المؤسسية، ولا تدفعها من اسفل مؤسسات ديمقراطية موجودة تعكس الارادة العامة على مستوى الدولة القومية، تغري باستغلال السلطة من قبل الصفوة التي تكون حرة في تفسير ارادة المجتمع العالمي وفق الخيارات التي تروق لها. هذه هي مشكلة محكمة الجزاءات الدولية. فبدلا من تقوية المؤسسات الديمقراطية على المستوى العالمي، فانها تضعف الديمقراطية في صيغها المحددة، وهي الدولة القومية.

هناك ثلاثة اسباب رئيسية خلقت هذا الخلاف النظري حول دور القانون الدولي. السبب الاول كما ذكر روبرت كاغان، هو اختلال توازن القوى بين الولايات المتحدة وكل من عداها. فالدول الضعيفة ترغب بطبيعة الحال ان تكون الدول القوية محكومة بالقانون والقواعد، بينما تسعى القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم للتصرف بحرية كاملة. ولكن القوة وحدها لا يمكن ان تفسر هذا الخلاف، لان الاوروبيين اغنياء واقوياء بصورة كافية تجعلهم يتصرفون تصرف الاقوياء اذا ارادوا.

السبب الثاني يرجع الى التجربة الاوروبية المحددة في الوحدة والتكامل، حيث تنازلت الدول الاوروبية عن عناصر اساسية من عناصر السيادة للاتحاد الاوروبي. ومثلهم مثل المدخنين السابقين يريد الاوروبيون من كل من عداهم ان يجرب المعاناة المترتبة على الاقلاع عن السيادة.

اما السبب الثالث فيرجع الى تجربة اميركا القومية الخاصة وما ترتب عليها من الشعور بالتفرد. يؤمن الاميركيون بالشرعية الخاصة لمؤسساتهم الديمقراطية ويؤمنون بانها تجسيد لقيم شاملة تهم الانسانية كلها. وهذا يقود الى تعامل مثالي في مجال الشؤون الدولية، كما يقود في نفس الوقت الى ان يخلط الاميركيون بين مصالحهم القومية وبين المصالح العالمية. وعلى العكس من ذلك يعتبر الاوروبيون ان التاريخ العنيف للنصف الاول من القرن العشرين كان نتاجا مباشرا للممارسة المنفلتة للسيادة الوطنية. وكانت الغاية من المنزل الذي شرعوا في اقامته منذ خمسينات القرن الماضي، والمسمى بالاتحاد الاوروبي، هي صهر مظاهر السيادة في طبقات متراصة من القوانين واللوائح، لمنع هذه السيادات من الانفلات مرة اخرى.

هذا الخلاف لا يحل عن طريق «اليقين الاخلاقي»، فكل طرف يؤمن بما يؤمن به انطلاقا من تاريخه وتجاربه. ان الاميركيين محقون عندما يصرون على انه ليس هناك «مجتمع عالمي» في المجرد او المطلق، وان الدول القومية يجب ان تهتم بمصالحها عندما يتعلق الامر بقضايا الامن الحرجة والخطيرة. ولكن يجب عليهم ان يتفهموا في نفس الوقت انهم يعتمدون على مؤسسات عالمية وعلى التعاون الدولي لادارة ما يسمى بالاقتصاد العالمي، الذي يجنون منه اعظم المزايا.

ويتطلب المدى الضخم الذي تمارس فيه الولايات المتحدة قوتها في مجال الامن، استخدام هذه القوة بحذر كبير. وتدين الولايات المتحدة لبقية العالم، ليس فقط بشرح مبدئها حول الضربات الوقائية، بل بتحديد المدى الذي يصل اليه. وسيكون تحديا عظيما، ولكنه ليس امرا مستحيلا، استخدام الامم المتحدة في نيل التأييد لاتباع سياسة متشددة تجاه العراق، بل حتى تحديد الاسباب الموجبة لتوجيه ضربات وقائية ضد العراق.

ويشير مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية، وصندوق مارشال الالماني الاميركي، الى ان الاوروبيين والاميركيين لا يختلفون حول قضايا كثيرة، بما فيها العراق، بالدرجة التي يتصورها بعض قادتهم السياسيين. ولكن مع ان الاغلبية على جانبي الاطلسي تحبذ التحرك والفعل، الا ان الاوروبيين والاميركيين على السواء لا يميلون الى تحرك اميركي منفرد.

وخلاصة القول فان الشرخ الذي ظهر عام 2002، ليس مشكلة عابرة، بل يعبر عن آراء تختلف بصورة عميقة حول حدود الشرعية الديمقراطية العالمية، وهي خلافات ستظهر في اشكال متباينة خلال الاعوام المقبلة. ولكن الولايات المتحدة تستطيع تخفيف هذه الخلافات باتباع سياسة معتدلة في اطار نظام يقوم على شرعية الدول القومية. اما ردود الفعل المتطرفة لاحداث 11 سبتمبر، فانها ستخلق عالما يكون مصدر قلقه الاساسي الولايات المتحدة وسياساتها.

*بروفسور في الاقتصاد السياسي العالمي بجامعة جون هوبكنز، للدراسات العالمية المتقدمة. وقد صيغت هذه المقالة على اساس محاضرة القيت بملبورن في استراليا.