11 سبتمبر: أخطاء العسكرة والثقافة

TT

اثار انتباه واستغراب كثيرين عدد السعوديين المشاركين في هجمات سبتمبر، 15 سعوديا من بين .19 ثم ظهر عدد اكبر من السعوديين في معتقل غوانتانامو الى جانب آخرين سلموا عقب القضاء على حكومة طالبان. كانت مفاجأة للجميع، حتى للسعوديين انفسهم، مما دفع بعضهم بعدم تصديق رواية المشاركة السعودية والتمسك بان خطأ ما قد وقع، او اللجوء الى نظرية المؤامرة، لكن الحقيقة الاكيدة بكل اسف تبقى انهم سعوديون.

هذه بداية لا ترضي البعض لكن مواجهة الحقيقة خير من التمسك بذرائع واهية. بعد 11 سبتمبر اصبح السعودي مثل العراقي والفلسطيني والايراني والليبي، لا يمنح تأشيرة لبلدان العالم بسهولة، ولا تسلم تحركاته من المتابعة، ولا تؤتمن تعاملاته المالية. باختصار بعد ان كان السعوديون اكثر الشعوب العربية تدليلا صاروا اكثرها ملاحقة.

ولمحاولة فهم ما حدث سمعت تبريرات وقرأت اكثر حول ظاهرة العنف السعودية العالمية، ووجدت اغلبيتها ضعيفة خاصة تلك التي اسهبت في الحديث عن الدافع الاقتصادي الاجتماعي. فالسعودية وان كانت تمر باوضاع اقتصادية صعبة الا انها في حال افضل من معظم المجتمعات العربية الاخرى. كما لا ننسى ان عددا من المشاركين في «القاعدة» جاءوا من بيوت ميسورة الحال. اذا ما هو الدافع؟ باختصار شديد هي ثقافة العنف التي تسربت الى الطرح الديني فخرجت على تقاليد مجتمع محافظ مسالم كالمجتمع السعودي. سُيّست الدعوة الدينية، وبعد تسييسها جرت عسكرتها، خلافا لما عرفته المملكة طوال سبعين عاما.

فالسعودية حتى في ابان التهديد الناصري لم تحارب برجل سعودي واحد، بل حاربت عبر اليمنيين، وعند تزايد التهديد العراقي في السبعينات لم يجند سعودي واحد، وبعد ان بلغت حالة التوتر مع ايران في الثمانينات درجة الحرب بعد صدام الطائرات العسكرية في سماء الخليج ايضا لم يستنفر سوى العسكر. الا ان تسييس ثقافة الحرب الدينية في افغانستان اشرك المجتمع السعودي في حرب افغانستان، فكانت عمليا اول حرب سعودية منذ التوحيد قبل اكثر من نصف قرن. ولدت تلقائيا وصارت حربا شعبية، غذتها ادبيات دينية ادخلت الى المجتمع السعودي لاول مرة ثقافة العنف فظهرت مؤسسات الجهاد وسُيّس المجتمع، في جوامعه وجامعاته، وهو الأمر الذي لم يكن مألوفا ابدا من قبل. وهب البعض يدافع عن السنة المسالمين في وجه التطرف الخميني.

الاخطر من ثقافة الحرب هي عسكرة شرائح من المجتمع السعودي. ولنتذكر ان هذا المجتمع نفسه تعرض لعملية نقل ضخمة من قبائل مسلحة ومتنافرة الى مجتمع متمدن، في اعقاب حرب توحيد المملكة العربية السعودية. ما حدث قبل اكثر من سبعة عقود يعتبر من اهم الاعمال السياسية الجبارة في العالم العربي، لا اعني بذلك توحيد هذه الدولة الضخمة فقط بل ايضا نزع الروح القتالية المألوفة عند القبائل والتي كانت سمة دائمة لمجتمعها. ان نزع روح القتال اصعب من نزع السلاح، ولاشك ان الملك الراحل عبد العزيز موحد الجزيرة ادرك فورا ان توطين القبائل لا يقل اهمية عن توحيد الدولة ، فقد سارع الى توطين القبائل في الهجر والقرى، تلك التي اعتمدت الحرب مصدرا من مصادر الحياة. وكان امراً صعباً استغرق سنين طويلة وحقق اكبر عملية توطين وتمدين في العالم العربي. وبالتالي فالسعودية لم تعرف عسكرة المجتمع، فكرا وسلاحا، تلك العسكرة التي مرت بها معظم المجتمعات العربية. لم يعد هناك سلاح محمول ولم تتحمس الدولة ابدا الى فكرة التجنيد الاجباري عند شبابها واكتفت بجيش متوازن وبالتالي عاشت دولة مسالمة دائما. انكسرت تلك القاعدة الذهبية عندما فتح جسر جوي للشباب السعودي الذي هب بالعشرات ثم المئات والالاف لمواجهة الاتحاد السوفييتي باسم الجهاد، وهو الذي لم يفكر في مواجهة السوفييت على حدوده في اليمن الجنوبي. وظهرت تنظيمات شعبية تقوم بتسييسه ثقافيا وتدريبه عسكريا، فكنا نرى صورهم في الثمانينات شبابا صغارا في ملابس افغانية يتعلمون استخدام المتفجرات ومواجهة الدبابات وحمل الصواريخ، تلك الصور التي اعتدنا على رؤيتها فقط للفلسطينيين واللبنانيين ومن شاركهم، واستمرت تلك الملحمة او الملهاة الى .1992 ولاشك انه كانت هناك محاولات رسمية لايقاف ذلك التيار بعد نهاية الغزو السوفييتي لكنه استمر شعبيا.

انتهت منذ ذلك الحين تلك البراءة والمسالمة الاجتماعية بعد ان صار التسلح عملا احترافيا، واستمر الشباب في افغانستان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وصاروا يجندون المزيد من الشباب، رغم ان الحكومة حاولت تعطيلهم الا انهم تعلموا ان يصبحوا مستقلين.

ولا اعتقد ان التفاصيل بعد ذلك مهمة، فلو لم يكن هناك بن لادن لكان هناك غيره بوجود شباب عسكر محترف مؤدلج في الخارج باسم الجهاد في الشيشان وكشمير وغيرهما. وفي المهاجر البعيدة اكتشف الشباب الجدد خلايا سياسية لها طروحات جغرافية ابعد من غروزني تدعو للتكفير والتغيير والمواجهة العالمية. اتصور ان هذين السببين، التثقيف المسيس والعسكرة الشبابية، وراء المفاجأة الكبرى في احداث القاعدة.

وقد يكون لزاما ان نسأل ما العمل بعد وقوع الضرر؟ انه ليس سهلا اعادة البراءة لمجتمع اصابته اضرار ثقافية بعد ان كان اكثر المجتمعات العربية حصانة. العلاج في نفس العلة، ثقافي فقط.