شكا أوجاعه بخريره!

TT

وقعت في «فارو» على جماليات كثيرة، كلها مجاني. ولم يتغير في جوارها وغابها وحدائقها الغلَّب سوى زحف القرميد ونوادي الغولف وهجوم حلفاء ما بعد الحرب العالمية الثانية: الألمان والبريطانيون وكل من خفت شمسه وزاد ضبابه وكثفت سحبه. على ان افضل ما وقعت عليه كان كتابا مشوقاً بعنوان «ابن عمار: مأساة شاعر اندلسي». وفي هذا الكتاب الذي وصفه المستشرق البرتغالي ادلبرتو الفش والاكاديمي الجزائري حمدان حجاجي، فصل شائق من تاريخ الأندلس ما بين مدينة شلب، هنا في جنوب البرتغال، وما بين اشبيلية مملكة المعتمد بن عباد، في زمن كثرت فيه المؤامرات والطوائف والملوك والبدع والخيانات.

وقد ذهبنا الى شلب بدعوة من رئيسة البلدية فيها، وعدت الى فارو لاقرأ في سيرة ابن عمار وشعره. وكلاهما مارق وانما مثير. وهذا الشاعر الفقير الذي قبل مرة مخلاة شعير ثمنا لقصيدة من اجل ان يطعم بعيره، سوف يصبح رجل السياسة الخارجية الأول عند المعتمد. إلا ان المعتضد، والد المعتمد، كان قد ابعده عن ابنه لكثرة ما تردد حول صداقتهما، وغاص ابن عمار في المعاصي لكنه ترقى درجات السلم السياسي، طالعاً نازلاً. مرة يسعد سيده فيوّليه ويجعله عاملا على المدن، ومرة يغضبه فيطرده ويبعده ثم يعود ليقبل عودته ذليلا. وقد اشتراه المعتمد من بني سهيل وفك اسره وكلف ابنه الراضي ان يأتي به الى قرطبة. وقد اشار المراكشي الى ذلك اليوم فقال «فدخلها ابن عمار اشنع دخول واسوأه على بغلٍ بين عدلي تبن وقيود ظاهرة للناس. وكان المعتمد قد أمر باخراج الناس خاصة وعامة حتى ينظروا اليه وهو على تلك الحال. وكان قبل اذا دخل قرطبة اهتزت له وخرج اليه وجوه اهلها واعيانهم ورؤسائهم. فالسعيد منهم من يصل الى تقبيل يده او طرف ثوبه. ومنهم من ينظر اليه على بعد لا يستطيع الوصول اليه فسبحان محيل الأحوال ومديل الدول... لقد دخل قرطبة بعد العزة القسعاء والملك الشامخ والرياسة الفارعة، ذليلا خائفا فقيرا لا يملك إلا الثوب الذي عليه».

وأخذ ابن عمار يكتب الرسائل الى المعتمد والقصائد فيه عل قلبه يرق. ومنها قصيدة يقول فيها:

ويهنيه السلو ان مت فإنني

أموت ولي شوق اليه مبَّرح

وقد تأثر المعتمد بالقصيدة التي اثارت فيه شجنا وذكريات قديمة. لكن حاسدي ابن عمار كانوا يتحركون لمنع نفوذه من العودة الى القصر. ونشروا في المدينة قصائد بذيئة في هجو المعتمد ونسبوها الى الشاعر الشلبي. وحاول ابن عمار ان ينفي وان يصرف عن نفسه كيد الكائدين، ولكن عبثا فعل. فقد كان المعتمد صغاءً واسع الأذنين. وربما كانت لا تزال تعمل في نفسه ذكريات الطيش «الغامضة» في صباه وصبا ابن عمار! وذات ليلة ابلغ المعتمد ان ابا عمار كشف ما وعده به من انه سيعفو عنه قريبا، فأثار ذلك غضبه. واتجه المعتمد الى السجن تلك الليلة ومعه فأس هوى بها على رأس ابن عمار وعلى جسمه فشقهما. ودفن الشاعر خارج القصر المبارك بباب النخيل. ويقول ابن خاقان «ولقد رأيت عظمي ساقيه قد اخرجا بعد سنين من حفر في جانب القصر المبارك واساودهما بهما ملتفة ولياتهما مشتقة».

لعن المؤرخون طباع ابن عمار ومكره وخيانته وليس فأس المعتمد. واتهم بأشياء كثيرة وجرائم. لكن المستشرق ادلبرتو الفش يقول ان الكثير من الأقوال كان شائعات سياسية من مؤامرات تلك الأيام. وهي سيرة كئيبة في اي حال من الفصول المحزنة الأخيرة في حياة الأندلس. ويقول الفش ان عز النهضة الشعرية كان هنا، في هذا الجزء من البرتغال، حيث بساتين البرتقال بدأت مواسمها منذ الآن، تشقها الأنهر التي قال ابن عمار في وصفها:

جريح (النهر) بأطراف الحصى كلما جرى

عليها شكا أوجاعه بخريره