ذكرى 11 سبتمبر: وقفة لالتقاط الأنفاس

TT

إذا كان العرب والمسلمون قد أضاعوا السنة الماضية في الاستغراق في غيبوبة ان اسامة بن لادن «إذا كانت لديه الرغبة فإنه لم تكن لديه القدرة» للقيام بعملية هائلة ومعقدة وضخمة في مستوى ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) فإنه بإمكانهم تعويض ما فات وان عليهم بعد مرور عام كامل ان يبحثوا عن الأسباب والمسببات الحقيقية التي جعلتهم الطرف الرئيسي، وليس طرفا رئيسيا فقط، في الحادثة التي شكلت مدخلا للقرن الواحد والعشرين وسيبقى هذا القرن يتأثر بها الى مائة سنة مقبلة.

بدل ان نستمر في لوم الآخرين ونبقى نتحدث بمرارة وكبت موجع زائد عن استهداف الغرب لنا ولحضارتنا ولديننا وعن انحياز الولايات المتحدة، انحيازا أعمى لاسرائيل، علينا في الذكرى الاولى للحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ان نتوقف لالتقاط الانفاس والنظر الى داخلنا للتعرف على عيوبنا واخطائنا وعلينا ان نتحلى بالجرأة الكافية لنمارس على انفسنا، على افكارنا وهواجسنا ومواقفنا ازاء الغير، معادلة النقد والنقد الذاتي، فالجهاد ضد النفس هو ارقى وافضل اشكال الجهاد.

قبل ساعات قليلة من ارتطام الطائرات التي اختطفها، بركابها الابرياء، رجال اسامة بن لادن بأهدافها في نيويورك وواشنطن، كان العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني يعبر بطائرته سواحل المحيط الاطلسي الشرقية قاصدا الولايات المتحدة الاميركية وكان هناك اتفاق مسبق على لقاء بينه وبين الرئيس الاميركي جورج بوش، كان تم الاتفاق ايضا، على ان يخصص لمراجعة آخر تطورات القضية الفلسطينية عشية انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة بحضور من يرغب في الحضور من رؤساء الدول.

كانت الادارة الاميركية الجديدة، برئاسة جورج بوش الابن، قد أوقفت اندفاعة واشنطن السابقة في عهد الديموقراطيين وبيل كلنتون تجاه الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية، وكان الوضع على الارض في الضفة الغربية وقطاع غزة قد دخل مرحلة التأزم والانهيار، وكانت عملية السلام قد بدت وكأنها معلقة من رموشها، وكان اليمين الاسرائيلي الذي عاد الى الحكم بقيادة ارييل شارون يدفع الامور نحو التخلص من السلطة الوطنية الفلسطينية ومن اتفاقيات اوسلو ونحو اعادة الجيش الاسرائيلي لاحتلال ما كان انسحب منه من الاراضي الفلسطينية المحتلة.

وكانت الدول الثلاث، الاردن والمملكة العربية السعودية ومصر، التي تعتبر الاكثر اعتدالا في الشرق الاوسط والاقرب الى الولايات المتحدة قد بدأت حملة دبلوماسية تركزت اساسا على اميركا وشملت الاتحاد الاوروبي وروسيا والصين عنوانها ان الوضع في هذه المنطقة وفي هذا الجزء من العالم سيبقى متوترا وسيبقى بمثابة برميل بارود ولغم كبير قد ينفجر في أية لحظة اذا لم تُحل القضية الفلسطينية على اساس قرارات الشرعية الدولية وبما يعطي للشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة مع وضع تصور يتم الاتفاق عليه للقضيتين الشائكتين، قضية القدس وقضية اللاجئين.

... وبعد دبلوماسية نشطة قامت بها الدول الثلاث كان تم الاتفاق مع الولايات المتحدة على العودة الى مسرح الاحداث بنفس اندفاعة الادارة الديموقراطية السابقة وأبدى الرئيس الاميركي جورج بوش الابن استعدادا للذهاب الى الجمعية العمومية للامم المتحدة في العشرين من سبتمبر (أيلول)، تسعة أيام بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الكارثة ليعلن تبني بلاده قيام دولة فلسطينية مستقلة وتبني خطة عملية مرفقة ببرنامج زمني لاقامة هذه الدولة.

عندما كانت طائرة الملك عبد الله الثاني تعبر اجواء المحيط الاطلسي في طريقها الى واشنطن لعقد القمة الاردنية ـ الاميركية التي كانت تقررت بالتشاور بين عمان والقاهرة والرياض وواشنطن، وللغاية الآنفة الذكر، وقع ما وقع وعقدت الحكومة الاردنية اجتماعا طارئا وعاجلا لتدارس الوضع ومعرفة وضع طائرة العاهل الاردني بعد ان تم اقفال المطارات والأجواء الاميركية كلها وبعد ان غدت هذه الزيارة متعذرة على نحو مطلق.

كانت تقديرات الحكومة الاردنية ان ما تحمله طائرة الملك عبد الله من وقود لا يكفيها للوصول الى أية محطة ارضية على طريق العودة، ومرت فترة مقلقة الى ان تم الاتصال بالطائرة الملكية التي كانت في طريقها الى لندن.. فقد ألغيت الزيارة وقد أصبح من المتعذر عقد القمة الثنائية قبل ان ينتشل الاميركيون انفسهم من هول الصدمة وقبل ان تصبح هناك امكانية للعودة لحديث «الدولة الفلسطينية المستقلة» مع الرئيس بوش ومع باقي المسؤولين الكبار في الادارة الاميركية.

وفي صباح اليوم الثاني وبعد عودته الى عمان مباشرة ترأس الملك عبد الله الثاني اجتماعا انعقد في منزله «دار البركة» حضره كبار المسؤولين في الدولة وتحدث فيه مطولا عن «الكارثة» التي وقعت وركز على مجموعة من النقاط الرئيسية من بينها:

ـ انه على العرب ان يتحركوا بسرعة لاقناع الادارة الاميركية والرأي العام الاميركي بعدم وجود أي علاقة لهم بما جرى وانهم يعتبرون هذا الذي جرى عملا ارهابيا مدانا وان لديهم كل الاستعداد للانخراط في التحالف الدولي الذي يجب ان ينشأ لمحاربة الظاهرة الارهابية ومطاردة تنظيماتها وعناصرها والقضاء عليهم في كل مكان.

ـ ان الفلسطينيين لا علاقة لهم بما جرى وان الذين قاموا بهذا العمل الاجرامي لا صلة لهم بفلسطين وان رفعهم للشعارات الفلسطينية مجرد خدعة لتسويغ ما جرى ولايهام العرب والمسلمين انهم قاموا بما قاموا به من أجل الاقصى والقضية المقدسة.

ـ ان الاسرائيليين سيتحركون بسرعة لاستغلال الظرف واغتنام الفرصة لقطع الطريق على مساعي اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ولذلك فإنه على الاشقاء الفلسطينيين ان يتماسكوا وان يوحدوا صفوفهم وان يكون قرارهم مركزيا وان يتجنبوا اي عمل قد يضعهم في دائرة الارهاب... وان عليهم ان يوقفوا العمليات «الانتحارية» على الفور.

فما الذي حصل...؟

لم تكتمل محاولة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للوصول الى الاميركيين قبل وصول شارون اليهم، إذ بعد فترة قصيرة امتدح خلالها الرئيس بوش السلطة الفلسطينية ومواقفها وتوجهاتها وبعد زيارة فاشلة جدا قام بها رئيس الوزراء الاسرائيلي الى واشنطن انقلبت الامور رأسا على عقب بعد موجة عنيفة من العمليات الانتحارية ربما كانت مصادفة ان تقع اكثرها دموية بينما كان شارون في زيارة الى واشنطن ويهم بدخول البيت الابيض للاجتماع بالرئيس بوش وبكبار مساعديه.

إن القصة طويلة ولا مجال لسردها كلها بتفاصيلها لكن المحصلة ان ما حذر منه الملك عبد الله وقع وان العمليات «الانتحارية» بغض النظر عن النوايا الحسنة والمقاصد الخيرة وشجاعة المنتحرين جاءت كهدية قيمة وثمينة هبطت على شارون من السماء، فقد مكنته من لعب اوراقه جيدا ومن صياغة معادلة جديدة، حسب مواصفات الاكثر تشددا وصقورية في الادارة الاميركية، وضع بموجبها الفلسطينيين كلهم، بما في ذلك عرفات والسلطة الوطنية، في زاوية الارهاب الى جانب اسامة بن لادن و«قاعدته» والملا عمر و«طالبانه» في حين وضع نفسه ودولته الى جانب ضحايا الارهاب الذين اكلتهم النيران وسفكت دماؤهم بدون اي ذنب اقترفوه في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

لماذا يكرهوننا...؟!

هكذا تساءل الاميركيون الذين صدمهم عنف الضربة والذين لم يجدوا تفسيرا لما جرى في اللحظات الأولى، واجابتهم مراكز الثقل الصهيونية، عندهم هناك في الولايات المتحدة، بالقول: انهم يكرهوننا لانهم يكرهون الحرية ولانهم في صراع دموي مع الديموقراطية وحقوق الانسان.. ولأنهم يسعون لتحطيم وتدمير الحضارة الغربية.

لقد كان بالامكان الرد على الاميركيين المتسائلين واقناعهم بالقول: «ان مشكلتكم ومشكلتنا ومشكلة الاسرائيليين على المدى الابعد تكمن في انحياز السياسة الاميركية الاعمى الى اشد تيارات اليمين الاسرائيلي تطرفا»، لو ان العمليات الانتحارية لم تقع ولو ان الانتفاضة الفلسطينية عادت الى صيغة المواجهة الشعبية ـ السلمية ولو ان الشارع العربي بصورة عامة لم ينجرَّ وراء المجموعات المتحجرة والغوغائية التي لم تدرك ولم تعرف ابعاد ما جرى وتبنَّتْ اسامة بن لادن وقاعدته والملا عمر وطالبانه واعتبرت ذلك الذي جرى «غزوة» اسلامية مباركة!!

حتى الآن ومع ان المفترض ان الامور اتضحت على حقائقها فإن هناك من لا يزال يعتبر ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) مؤامرة صهيونية ـ اميركية هدفها فرض الارادة الاميركية على العالم بأسره، كما ان هناك من لا يزال يتحدث عن «الغزوة الاسلامية المباركة» وعن ان النصر في النهاية سيكون لاسامة بن لادن و«قاعدته» والملا عمر و«طالبانه».

كيف من الممكن ان نتوقع من الاميركيين غير هذا الذي نراه ونسمعه وهم يسمعون ويقرأون: «ان اسامة بن لادن رضي الله عنه (!!) فارق العصر وفاروقه.. وان امتلاك السلاح النووي عبادة، وان الغرب محكوم عليه بالهلاك حتما.. وان الاساس الاخلاقي للحضارة الغربية زائف.. وان الشعب الاميركي لا يمكن الا ان يكون مجرما..»!!

ماذا نتوقع ان يفعل الاميركيون وهم يسمعون هذا الكلام كل يوم.. حتى بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وبالمقابل عندما يسمعون شارون يقول ان الارهاب جبهة واحدة وان ضحايا الارهاب جبهة واحدة وان ما حصل في نيويورك يحصل يوميا في تل ابيب والقدس وحيفا..؟!

لقد قالت معظم الدول العربية رأيها بما جرى في الحادي عشر من سبتمبر بكل وضوح ولقد اعتبرت ان ذلك ارهاب وجريمة وتبرأت وبرأت الفلسطينيين منه ومن الذين قاموا به، لكن الصورة التي وصلت الى الاميركيين هي غير هذه الصورة.. لقد وصلت الى الاميركيين صور أولئك المهووسين وهم يرقصون في شوارع بعض العواصم والمدن العربية ويحملون صور اسامة بن لادن ويتغنون بما جرى في نيويورك وواشنطن في ذلك اليوم الاسود.

كان المفترض ان نحاصر مراكز القوى الصهيونية ومجموعات وتيارات اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة بالتحرك الايجابي السريع ونبذ الارهاب وفتح حوار حتى مع هذه المجموعات والتيارات المتطرفة، لكن العقلاء منا وقعوا اسرى وضحايا لإرهاب شعارات التنظيمات الاكثر تطرفا التي لا تزال تتبنى الملا عمر وطالبان وتصف بن لادن بأنه: «فارق العصر وفاروقه» وتعتبر ما جرى في نيويورك وواشنطن «غزوة» اسلامية مباركة.