من اغتيال الملوك إلى الإرهاب الجماعي

TT

إنه لمشهد فظيع.. في 11 سبتمبر عام 2001، كانت شبكة «سي.إن.إن» تنقل «على الهواء» مباشرة كيف اصطدمت طائرة بأحد البرجين «التوأمين» لمركز التجارة العالمي في نيويورك. وأعيد بث هذا المشهد الى العالم بأسره. وقبل ان أجد الفرصة حتى لادراك ان ما يجري هو كارثة جوية حقيقية ـ في اغلب الظن انني لم اكن الوحيد الذي ومضت لديه هذه الفكرة في بادئ الامر ـ صرخت المذيعة بغتة قائلة: انظروا هذه طائرة ثانية تخترق ناطحة السحاب المجاورة.. الحريق.. النيران تنتشر في الواجهة، وتنهار ناطحة السحاب امام سمعنا وبصرنا، بينما تتهاوى الأخرى كالأشلاء بعدها. وبقي في «التوأمين» آلاف الناس، الذين لقي اكثرهم حتفه.

في الوقت ذاته اصطدمت طائرة أخرى بمبنى البنتاجون في واشنطن. اما الطائرة الرابعة التي اختطفها الارهابيون فلم تصل الى هدفها ـ اي البيت الابيض.

لقد كانت اكبر عملية ارهابية في التاريخ. ومن الطبيعي ان تتملك الكثيرين ـ ان لم تكن غالبية ذوي التفكير السليم ـ في اعقاب الانفجارات في نيويورك وواشنطن، مشاعر الحزن والمواساة حيال الامريكيين الذين داهمتهم هذه المحنة الرهيبة، ومشاعر الغضب حيال الارهابيين الهمج. لكن حلت فترة التأمل بعد الصدمة المؤلمة والانفعالية. ويمكن القول بلا مبالغة بأن التأمل ضروري بالنسبة للبشرية مستقبلا.

ان تاريخ الارهاب طويل جدا، كما شهد تطورا معينا. ففي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان هدف العمليات الارهابية عادة تصفية رجال الدولة. فقد اطلقت زاسوليتش النار على عمدة بطرسبورج تريبوف، بينما شكل جيليابوف وبيروفسكايا زمرة اغتالت القيصر الروسي الكسندر الثاني، وألقى كاليايف قنبلة على عربة الامير المعظم سيرجي الكسندروفيتش عمدة موسكو، فانفجرت وقضت عليه. وفي عام 1914 اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى بعد اطلاق الرصاصات في سراييفو، حيث اغتيل الجراندوق النمساوي فرانتس فرديناند. وفي عام 1934 اغتيل في مرسيليا الملك اليوغسلافي الكسندر ووزير الخارجية الفرنسي لويس بارتو.

وتواصلت اغتيالات رجال الدولة في النصف الثاني من القرن العشرين ايضا ـ ففي عام 1973 اغتال الانفصاليون من الباسك الجنرال كاريرو باركو، وفي عام 1979 اغتال مقاتلو الجيش الجمهوري الايرلندي اللورد ماونتباتن، وفي عام 1984 اغتال الانفصاليون السيخ انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند، وفي عام 1995 اغتال المتعصبون اليهود اسحاق رابين رئيس وزراء اسرائيل. وفي هذا الوقت تحول النشاط الارهابي ليوجه ضد الاهالي المسالمين. ووسع الارهاب منطقة ممارسة افعاله، لكنه بقي لفترة من الزمن «محصورا في النطاق الداخلي»، ولم يخرج الى الساحة الدولية، وكانت لدى الانفصاليين الباسك في اسبانيا او «الاخوان المسلمين» المتعصبين دينيا في مصر صلات مع المنظمات الاجنبية المماثلة، لكنهم كانوا يمارسون افعالهم في داخل «بلدانهم».

لقد بدأت الحركات الدينية او السياسية المتطرفة افعالها الجماعية ضد السكان المدنيين على الصعيد الدولي في النصف الثاني من القرن العشرين. واحتدم الوضع بعد ان اندمج الارهاب بشكله الدولي مع بعض الدول ودوائرها. والمثال النموذجي لذلك، الفترة الاولى من الحكم في ايران بعد سقوط الشاه، والذي رفع شعار تصدير «الثورة الاسلامية» ونفذ العمليات في هذا المجال.

بيد ان هذا النموذج لارهاب الدولة بدأ في أواخر القرن العشرين يفقد صلته بدوائر الدولة. ولكن بقيت بدرجة ما مظاهر دعم الدولة لبعض الجماعات الارهابية، ثم صارت تميل الى الانحسار بجلاء. وحدث هذا لحد كبير بنتيجة سياسة «اللاعبين» الكبار في الساحة الدولية، الذين خرجوا من «الحرب الباردة»، وفي مقدمتهم روسيا والبلدان الاوروبية والولايات المتحدة. واستخدمت اساليب الضغط على الدول المؤيدة لبعض التنظيمات الارهابية، وكذلك اسلوب «بصيص النور في نهاية النفق». وراهنت الولايات المتحدة بصورة رئيسية على الضغوط وفرض العقوبات، وحتى استخدام القوة العسكرية، علما ان روسيا كانت دوما تدعو الى اتخاذ موقف متوازن، واستخدام التدابير السياسية بصورة رئيسية، واتخذت الموقف نفسه بلدان كثيرة من اعضاء الاتحاد الاوربي، ومارست هذه التدابير وغيرها دورا كبيرا، او بالاحرى دورا حاسما، في تحول وانعطاف مسيرة ليبيا التي أوقفت دعم الجماعات الارهابية بشكل مساعدات مالية وتدريب المسلحين في اراضيها.

وبغية تأمين هذا التغير في السياسة الليبية أرسلتُ من قبل القيادة الروسية خصيصا بصفتي مديرا لجهاز المخابرات الخارجية الى طرابلس، حيث اجريتُ محادثات مثمرة مع القادة الليبيين. وانا اعرف مدى فعالية عمل الزملاء الاوروبيين في هذا المضمار. ففي اواسط وفي النصف الثاني من التسعينات قطع معمر القذافي العلاقات مع رجال «الالوية الحمراء» الايطاليين و«الجيش الجمهوري الايرلندي» وأبعد من البلاد منظمة ابو نضال الارهابية، وقطع العلاقات مع الجماعات الاقليمية الفلسطينية «جبهة تحرير فلسطين ـ القيادة العامة» و«الجهاد الاسلامي» الفلسطيني، وابعد من البلاد الاشخاص المشتبه في تورطهم في الارهاب والعاملين ضد الانظمة في مصر واليمن والاردن.

ومارست الولايات المتحدة دورا كبيرا في تكريس موقف ليبيا هذا، حيث وافقت في نهاية المطاف على الاقتراح الليبي بمبادلة موافقتها على تقديم اثنين من الرعايا الليبيين المشتبه في تورطهما في العملية الارهابية التي اسفرت عن مصرع 270 شخصا بينهم 189 امريكيا كانوا على متن طائرة شركة «بان اميركان» في اثناء تحليقها فوق مدينة لوكربي الاسكتلندية في عام 1989، لكي يحاكما في محكمة ومكان تقبل بهما ليبيا. وجرت المحاكمة ليس في الولايات المتحدة او بريطانيا، كما طالبت بذلك واشنطن ولندن، بل في هولندا. وفي أواخر يناير عام 2001 جرت ادانة احد المتهمين الليبيين. والمعتقد أن هذا اثر لحد كبير على موقف ليبيا حين اعلنت عن تأييدها للعملية الامريكية لمكافحة الارهاب في افغانستان.

وفي اعوام التسعينات حدثت تغيرات ايجابية في حياة ايران الداخلية. فقد تحول تأييد الشعب الايراني من المركز الديني في قم، الى الشخصية الدينية المعتدلة محمد خاتمي المعروف بضبط النفس وبدعواته الى التخلي عن الظواهر المتطرفة في الحياة الاجتماعية والدينية، وفي السياسة الخارجية، والى اجراء الاصلاحات وضمان حرية الصحافة. وتجلت التغيرات في اتجاه التفكير في ايران بشكل متناقض للغاية في اثناء انتخابات الرئاسة التي فاز خاتمي فيها بأكثرية الاصوات وفي الانتخابات البرلمانية لعام 2000 والتي اسفرت عن فوز الاصلاحيين بغالبية المقاعد.

وأدى التغيير في الرأي العام الداخلي بصورة رئيسية الى تخلي ايران عن تصدير الثورة الاسلامية، وبعبارة أخرى عن نشر النموذج الديني الايراني لبناء الدولة والمجتمع باستخدام القوة والاكراه. ومارست روسيا والبلدان الاوروبية التي اعتمدت نهج تأييد التطورات الداخلية الايجابية في ايران دورا ايجابيا حيث عملت على اخراجها من العزلة عن العالم الخارجي.

وتجلت التغيرات في اتجاه تفكير كبار رجال الدولة الامريكيين حيال ايران في الفترة الاخيرة من وجود ادارة كلينتون. وقد تحسستُ ذلك في اثناء احاديثي الكثيرة حول الشأن الايراني مع مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية. ففي مارس عام 2000 ألقت خطابا اكدت فيه اهمية العلاقات الايجابية الجديدة بين الولايات المتحدة وجمهورية ايران الاسلامية، ودعت الى الحوار المفتوح بين البلدين بدون أي شروط مسبقة، لا سيما ان حلفاء الولايات المتحدة الاوربيين كانوا في هذا الوقت في مرحلة «الحوار الانتقادي» النشيط مع ايران.

لكن دعوة اولبرايت لم تلق الاستجابة لدى ادارة بوش. وبالرغم من ان تعقيدات الوضع السياسي الداخلي لم تخمد التغيرات الايجابية في سياسة ايران، فإن ايران ايدت منذ البداية ـ وهذا ما لم ينتبه اليه سوى القلائل ـ العملية الامريكية في افغانستان وساعدت في نجاح الولايات المتحدة عسكريا في المناطق الافغانية التي تتمتع فيها بنفوذ عادة.

وبالرغم في هذه الاتجاهات الايجابية شددت الولايات المتحدة انتقاداتها الى ايران. علاوة على ذلك فان المسؤولين في الادارة الامريكية ذكروا ايران بصفتها احد الاهداف المحتملة بعد افغانستان للعملية الامريكية ضد الارهاب. وقد ولّد هذا كله، كما كان متوقعا، تأثيرا هدّاما ـ اذ برز في ايران بشكل اكبر اتجاه التقارب بين الفئتين المعتدلة والراديكالية ـ السلفية. وفي الوقت نفسه ازدادت اعمال قصف مناطق شمال الجليل في اسرائيل من قبل منظمة «حزب الله» المدعومة من ايران، وذلك من جهة الاراضي اللبنانية.

ويمكن القول ان الصلات بين الجماعات الارهابية ومؤسسات الدولة قد ضعفت، بالرغم مما يلاحظ من تذبذبات في تطورات الوضع في هذه البلدان او تلك، باعتبار ذلك الظاهرة الهامة والاساسية لها (على تخوم القرنين العشرين والحادي والعشرين).

لقد اظهرت احداث 11 سبتمبر بجلاء صنفا جديدا اكثر خطورة من اصناف الارهاب الدولي هو وجود منظومة مكتفية ذاتيا، لا ترتبط بأي دولة، اقتحمت الميدان الدولي عبر ارتكاب الجرائم التي حصدت ارواح آلاف الناس، باعتبارها «لاعبا» جديدا على الصعيد الدولي.

وكانت التحالفات والحروب بين الدول، والتعاون والمواجهة بينها حتى الآونة الاخيرة، تحدد مسار تطور الوضع الدولي. بعبارة أخرى، لقد نشأ هذا الوضع بنتيجة وجود هذه العلاقات او تلك بين الدول، ومجموعات الدول، والتحالفات المنبثقة او المنحلة بينها. بيد ان الدول كانت مع هذا تشكل الى جانب المنظمات الدولية العلنية كيانات العلاقات الدولية. والآن لم يعد هذا الاستنتاج كافيا.

واذا ما كانت المنظمة التي شنت الهجوم الارهابي ضد الولايات المتحدة، مرتبطة بأي دول في الشرقين الادنى والاوسط وافريقيا وجنوب شرق اسيا، لعرفت ذلك اكثر من جهة من دوائر الاستخبارات في بلدان العالم الكبري مثل جهاز المخابرات الخارجية الروسي ووكالة المخابرات المركزية الامريكية و«إم.إي ـ 6» البريطانية و«بي.إن.دي» الالمانية وكذلك المخابرات الفرنسية والصينية والهندية او غيرها.

ومن الصعب ان نتصور بلدا في الشرق تتمتع الدوائر الحكومية فيه بحماية الاجهزة الخاصة الاجنبية بصورة كاملة، يخلو من اي مصادر للمعلومات فيها، ويستثنى تماما ـ وتقود الى هذا الاستنتاج خبرتي الشخصية في ادارة جهاز المخابرات الخارجية الروسي ـ احتمال عدم قيام اي جهاز أمني بتسليم الامريكيين المعلومات الواردة اليه بشأن الاستعداد لتنفيذ عمليات ارهابية في اراضي الولايات المتحدة.

كما ينبغي ألا ننسى بأن التحضير للأفعال الاجرامية تواصل على مدى فترة طويلة، ولربما اكثر من عام. فقد جرى جمع الموارد المالية، وتم تدريب الارهابيين ـ الانتحاريين على قيادة طائرات الركاب، اذ لا يسمح لكل فرد بتلقي هذا التدريب، كما لا يتمتع كل فرد بالقدرة على اتقان قيادتها بنجاح. زد على ذلك وجوب تزييف الوثائق اللازمة التي لا تثير أي شبهات، وهو ايضا عمل حثيث وخصوصي. وكقاعدة فإن حاملي هذه الوثائق يتنقلون ويتكيفون مع الاوضاع اثناء ترحالهم من بلد الى آخر.

ووجب اشراك عدد كبير من المساعدين لدى تخطيط العملية وتنفيذها: بالتسلل الى داخل عدد من المطارات الامريكية، وعبور حواجز الرقابة والتفتيش لدى صعود الطائرات، واختطافها في وقت واحد عندما تكون في الجو، حيث اختطف ما لا يقل عن اربع طائرات بركابها (لربما كانت لديهم النية لاختطاف عدد اكبر منها)، وتجنب رقابة رادارات المطارات وتوجيه الضربات في آن واحد الى الاهداف المقررة سابقا. وقد جرى هذا كله بدون اي تسرب للمعلومات. ان مثل هذه المنظمة السرية لا بد ان تكون قوية وكثيرة العدد ويتوفر لها الدعم المالي وتعمل بصورة مستقلة ذاتيا.

ويقوم مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي وغيره من الاجهزة الخاصة باستجواب الاعضاء المفترضين لهذه المنظمة التي اثبت الامريكيون ان رئيسها الموجه لها هو اسامة بن لادن ـ المليونير السعودي الاصل الذي عاش في افغانستان في عهد حكم طالبان. وفي اغلب الظن ان الامريكيين سينشرون في نهاية المطاف ما لديهم من مواد، ومنها حصيلة استجواب اعضاء «القاعدة» التابعة لبن لادن. وبعد اعتقال رجال العصابات في اثناء العملية في افغانستان نقلوا الى القاعدة العسكرية الامريكية «جوانتانامو» في الاراضي الكوبية. وانا آمل ألا تستخدم هذه المعطيات بصورة مصطنعة ضد دولة «مارقة» ما، وان تؤكد الاستقلالية الذاتية لهذه المنظمة الاجرامية.

*رئيس وزراء روسيا السابق

ترجمة: عبد الله حسن