خطوات بوسعها تجنيب العراق الحرب

TT

من الملاحظ ان معظم ما يقال ويكتب ويفعل عربياً بصدد مخاطر الحرب، يدور في اطار تشريح ما يقوله ويفعله العالم الغربي بين تأييد ومعارضة للهجوم على العراق، او يتطرق الى سيناريوهات الحرب اذا وقعت، وتحليل ماهية الحملة الاميركية والدور البريطاني فيها. أي بأختصار لا توجد مبادرات شاملة او افعال عربية او عراقية، سلمية او عسكرية، لوقف الحرب او الاستعداد لها. بل، حتى تكتمل المأساة، هناك تناقضات بين القول والفعل لبعض العرب.

قبل الانتقال الى ما يمكن للعراق او العرب فعله لمنع الحرب والحفاظ على ماء الوجه، لا بد من الاشارة لقرارات مؤتمر وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الاخير بالقاهرة، اذ اعلنوا رفض ومعارضة تهديد وضرب العراق، ماذا سيعني هذا بالضبط لو قامت الولايات المتحدة بشن الحرب غداً واستعملت قواعدها في البحرين او قطر مثلاً، او اذا عبرت مقاتلاتها اجواء عربية؟ ماذا يعني حينها رفض تهديد او ضرب العراق؟

كان من الممكن ان يقرن العرب قراراتهم بالحد الادنى من العمل مثل ارسال بعثات من مختصين عرب وروس وافارقة الى العراق للتفتيش عن الاسلحة وتطبيق قرارات الامم المتحدة. او، في المقابل، كان من الممكن اعتبار برامج التسليح العراقي كبرامج تعاون عربي تزاح مسؤوليتها عن بغداد الى اشراف مشترك عبر الجامعة العربية على ان يتم التخلص منها ضمن اتفاق بالتخلص من كل الاسلحة غير التقليدية في المنطقة، والتأكيد انه حتى يتم ذلك ستبقى هذه البرامج والاسلحة في الحفظ والصون العربي الجماعي ولن تستعمل الا للدفاع على المصالح القومية العربية العليا. هذا طبعاً اذا كانت مثل تلك الاسلحة موجودة فعلاً لدى العراق، او بمعنى آخر اذا كان العراق قد استطاع منذ عام 1998 (حين استعاد الرئيس كلينتون لجان التفتيش تمهيداً لضرب العراق) وحتى الان ان يُنشط برامجه الى درجة الاتهامات الحالية التي تؤكد امتلاكه لاسلحة تدمير شامل، وقدرته على تصنيع السلاح النووي في شهور.

اذا كانت الدول والشعوب العربية تحتمي خلف الكلمات الجوفاء، فما الذي يستطيع العراق، او بالاحرى رئيسه، فعله لمنع الحرب؟ طوال الاسابيع الماضية كان الرئيس بوش يسعى لبناء اهم الشروط لشن الحرب، وهو كسب تأييد الكونغرس والرأي العام الاميركي، والقليل من التأييد العالمي. في المقابل كانت القيادة العراقية تصدر فتاوى بأن الحرب حتمية مهما فعل وقال وقدم العراق من مبادرات. هذا خطأ جسيم بالطبع، فبدون اكتمال شروط الحرب الحديثة لن يتجرأ الرئيس الاميركي على خوضها. الذي يتجاهل هذه الحقائق العلمية في عالم اليوم، اما انه يعيش في عصر اخر سحيق، او انه يريد المغامرة بالحرب.

ومن هنا كان وما زال مهما خروج النظام العراقي من حالة ردود الفعل على الاتهامات المتتالية واعتماد مبادرات في ثلاثة اتجاهات: باتجاه العراقيين، ثم باتجاه العرب، وثالتاً مبادرات في الاتجاه العالمي.

كان من مصلحة الشعب العراقي وكل العرب لو استقال الرئيس العراقي، على الاقل، ما بين هزيمة ام المعارك وحتى قبل شهر مضى حين كانت واشنطن تطالب فقط بعودة المفتشين. اما الآن فتحول الهدف الى مناورة تغيير النظام، ويأتي هذا بعد المطالبة بعدم انتخاب الرئيس عرفات مجدداً، وبالتالي اذ تحقق ذلك لواشنطن فسيكون بوسعها، بعد تغيير نظام افغانستان ايضاً، ان تُنصب وتخلع من تريد في كل المنطقة، وهذا مبدأ مرفوض. لذلك بالذات لم يعد العرب يتمنون زوال الرئيس صدام الآن، كما انه شخصياً لم يفكر يوماً في الاستقالة، وبالتالي لا جدوى من مواصلة الحديث هنا.

المبادرات المطلوبة من النظام تجاه الشعب العراقي ويمكنها ان تساهم في تطوير البلاد ومنع الحرب والدمار الان يمكن ان تشمل:

ـ الاصلاح السياسي الداخلي، على ان يضم اطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وفتح المجال لتأسيس الاحزاب بحرية تامة، واطلاق حرية الاعلام، وضمان سلامة كل من يعود الى البلاد من المهاجرين، وبالطبع تحديد موعد قريب للانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد فترة اولية من الحياة الحزبية الحرة. هنا يمكن للرئيس ان يعلن سلفاً عدم ترشيحه لذاته مكتفياً بالفترات السابقة التي نالها. مثل هذا الاعلان عن الاصلاح والمباشرة فيه فوراً يلغي حجج واشنطن وانصارها بأنها تريد تحرير الشعب العراقي بالقوة من الحكم الديكتاتوري.

على الصعيد العربي يمكن للنظام العراقي ان يكف عن تكرار اعلان استعداده الشفهي ويستبدل ذلك بالتطبيق وخصوصاً فيما يتعلق بالقضايا مع الكويت. الى جانب ذلك يمكن للبرلمان العراقي الحالي اصدار ميثاق شرف يتعهد بعدم الاعتداء على أي بلد عربي في أي وقت الا في حالة العمل الجماعي العربي من اجل المصلحة القومية. ولا بأس لو اشتمل هذا الميثاق على اعتذار عما حصل في حالة الكويت، ومطالبة الاجهزة التنفيذية بازالة كل القضايا العالقة من جراء تلك الغلطة. هذه الخطوة تشعر العرب بالامان، وتلغي مقولة ان العراق يهدد جيرانه، وادعاء انهم في الواقع يتمنون ان تضربه الولايات المتحدة. هناك بالطبع مبادرات اخرى سلمية كثيرة يمكن للعراق القيام بها في المجال العربي.

الجبهة العالمية تتطلب هي الاخرى مبادرات صارخة وصادقة لشل قدرات العدوان معنوياً واخراج العراق من هذه الدوامة الطاحنة التي بدأت قبل اكثر من عقدين من الزمن مع اعلان الحرب ضد ايران بدعم غربي آنذاك وراح ضحيتها نصف مليون مسلم على مدار ثمان سنوات. كان المفترض ان لا ينتظر العراق الانذارات المحددة زمنياً لاعادة المفتشين، ولكن المبادرة للاعلان مثلاً عن الاستعداد لاستقبال مفتشين يختارهم الامين العام للامم المتحدة ويضمن شخصياً خلوهم من الجواسيس، والتأكيد انهم سيمنحون حرية الحركة لبضعة شهور على ان تضمن الامم المتحدة لاحقاً انهاء الحصار المفروض على العراق. هذه المبادرة يسهل تبريرها وهضمها من الرأي العام الدولي والاميركي وتنسف اسس الحرب وتنهي لاحقاً وبسرعة مصاعب البلاد ولا تسبب أي ضرر او اهانة للعراق شعباً وحكومة. يمكن ايضاً توجيه دعوة مفتوحة لوزراء خارجية دول العالم ولادباء وكتاب ذوي شهرة عالمية بزيارة جماعية او فردية ومفتوحة زمنياً للعراق وضمان حرية الوصول الى أي بقعة وبناية يريدونها. هذه الدعوة ستحول كل هؤلاء الى سفراء ومحامين عن العراق بأنه نفذ القرارات الدولية ويعاني من استمرار الحصار ونتائجه.

حتى لو كان لدى العراق اسلحة تدمير شامل مخالفة للقرارات الدولية فان افضل الحلول هي الصراحة ومن ثم: تسليمها للامم المتحدة، او ايداعها في حماية أي دولة عربية حتى تنتهي حاجة العرب اليها، او مقايضتها بنزع سلاح اسرائيلي مماثل. او طبعاً الاقرار بوجود سلاح من هذا النوع ورفض تسليمه وتحدي من يتجرأ على الاقتراب من بغداد، فمثل هذا الموقف في حد ذاته يؤدي الى الردع. ان اتعس ما يمكن عمله هو السكوت والاستكانة في انتظار الدمار مع تكرار المراهنات والشعارات الجوفاء كما يجري الآن.