مضاعفات الحادي عشر من سبتمبر

TT

بعض الناس يعتقد ان العالم تغير تماما بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر، ولكن الحقيقة ان السياسة الامريكية بالنسبة للشرق الاوسط لم تتغير الا في وتيرتها وسرعة حركتها والتأهب لاستعمال القوة العسكرية المباشرة لتنفيذ هذه الاستراتيجية. ربما كانت هذه الاحداث مبررا لاستخدام القوة التي يصعب استعمالها في الظروف العادية، أما ان الاستراتيجية الامريكية تغيرت فأظن ان ذلك ابعد ما يكون عن الحقيقة.

والواقع ان امريكا كانت موجودة في الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الثانية وكانت تتبع خطى القوتين الاستعماريتين الكبريين في هذا الزمان: بريطانيا وفرنسا، وتشارك في ترتيب الاوضاع في المنطقة باعتبارها الوريثة الشرعية للامبراطوريتين الآفلتين. وفي احداث ما قبل ثورة 23 يوليو المصرية كان السفير الامريكي جنبا الى جنب مع السفير البريطاني يدرسان تطور الاحداث في مصر ويشتركان في معالجتها، وعندما قامت الثورة كان للأمريكان دخل في منع تدخل القوات الانجليزية التي كانت مرابطة في معسكراتها في مدن القناة. ومع ان للانجليز دورا اساسيا في قيام الدولة الاسرائيلية على الارض الفلسطينية الا ان الذي قام بالاقرار الدولي والاعتراف الاول كان الولايات المتحدة. ومن الصعب ان نعتقد ان مبادرة الولايات المتحدة بالاعتراف بالدولة الاسرائيلية ومساندتها في الامم المتحدة كانت عطفا على المأساة اليهودية ومعاناة اليهود على ايدي الحكومة النازية في المانيا، بل لأن قيام مثل هذه الدولة في تلك المنطقة الغنية بالبترول والتي تعتبر موقعا استراتيجيا بالغ الاهمية يتفق مع الاهداف السياسية في المنطقة، وكان هذا رأيا قديما في السياسات الغربية من الممكن ان نرجعه الى حملة نابليون على مصر والمنطقة العربية في البدايات المبكرة للقرن التاسع عشر. والحق ان قضية وطن قومي لليهود بالغة التعقيد ومحفوفة بدوافع وأغراض متعددة، لكن المؤكد ـ على اي حال ـ ان الوجود الاسرائيلي يخدم الاهداف الاستعمارية في المنطقة. فالدولة الاسرائيلية لم تقم بموافقة اصحاب الارض ولا بموافقة الجيران العرب، بل بقوة ضغط سياسية اشتركت فيها القوتان الكبريان ـ في هذا الوقت ـ الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الامريكية، وكان من المعروف بداهة ان تناقضات كثيرة تقوم بين هذه الدولة وبين الدول العربية وأن استيعاب الدولة العبرية وتأقلمها مع المجتمع العربي والثقافة العربية السائدة شبه مستحيل، خاصة ان قادة الحركة الصهيونية المؤسسين كانوا من الدول الاوربية سواء من شرقها او غربها، وربما كان اخطر من كل ذلك ان عملية اغتصاب الارض ستظل محفزا دائما على الخصومة والعداء المستمر، مما يجعل الدولة العبرية دائما في حاجة الى مساندة الدول العظمى، وبالتالي حليفا مطلقا لمواجهة العداء الطبيعي الناتج عن قيام الدولة بالغصب. وهو ما حدث بالفعل وأمكن التلاعب بالمنطقة حيث تمسك الولايات المتحدة بـ99% من اوراق اللعب على حد قول الرئيس السابق انور السادات. وقصة الخمسين سنة الماضية من حروب مهلكة وثورات وانقلابات وتعثرات دالة تماما على واقع المنطقة وظروفها الصعبة التي وضعت فيها بسبب هذه السياسات. وبعد الكثير من المراوغات والمصادمات بين العرب والدولة العبرية بدا أنه على العرب ان يعترفوا بالوجود الاسرائيلي وان يصبح السلام معها هو المطلب او الهدف الاستراتيجي. ولكن كما نرى لم يكن هذا هو هدف اسرائيل ولم يكن كذلك هو هدف الولايات المتحدة، فالخطط التي تحدث عنها بناة الدولة العبرية لم تكن مجرد الوجود واعتراف العرب بها، بل ان تكون هي القوة الكبرى الفاعلة في المنطقة، مسنودة بالقوى العظمى لتقود العالم العربي وتصبح هي العقل المدبر والخلاق وتصبح قوى الشعوب العربية هي القوة العاملة. وحتى في العصر الحديث فان مشروع شيمون بيريز للشرق الاوسط ليس بعيدا تماما عن هذا الحلم.

بعد انتهاء الحرب الباردة وغياب القطب الدولي الثاني ـ الاتحاد السوفياتي ـ لم يعد استعمال القوة في تنفيذ السياسات محفوفا بالمخاطر. اما منظمة الامم المتحدة فصار العمل على إضعافها حتى وصل الامر الى تهديدها بأنها اذا لم تستجب لرغبة الولايات المتحدة في ضرب العراق وتصدر قرارا بذلك فان الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا سوف تقومان بالضربة التي يعتقدان انها لازمة وضرورية لأمن الولايات المتحدة وربما بريطانيا ايضا.

من المحتمل ان التهديد باستعمال القوة في تغيير الانظمة كان صعبا بدون حوادث الحادي عشر من سبتمبر، فلم يكن هناك عندئذ مبرر لهذا الهياج العاطفي والانفعال العصبي الذي برر امام الناس جميعا الرغبة الامريكية في الانتقام من مرتكبي حوادث نيويورك وواشنطن وبالتالي تقبل الحملة العسكرية على دولة صغيرة ممزقة (افغانستان) لعبت في انهاكها وتمزيقها خطط وسياسات الولايات المتحدة ذاتها، اما الآن وبسبب المضاعفات النفسية الناتجة عن ضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، فان الامر من الممكن ان يتسع ليشمل كل ما تحتاجه الاستراتيجية الامريكية من خطط. وبالفعل امكن تقسيم العمل الى خيرين واشرار والى اصدقاء واعداء من دون اي موضع لحياد ما.

وأعتقد ان الكاتب البريطاني النزيه روبرت فيسك على حق عندما قال في مقالة اخيرة في «الاندبندنت» ان الولايات المتحدة تفعل ما فعلته بريطانيا وفرنسا عقب الحرب العالمية الاولى التي صفيت فيها الامبراطورية العثمانية من تقسيم الدول العربية الى الصورة التي ظلت عليها الى اليوم، وأشار الى انه لم يكن هناك لبنان ولا الاردن وكذلك الكثير من التغييرات الحدودية في هذا البلد او ذاك، وان هذا كان لاغراض سياسية لعل ابرزها هو تفتيت هذه الكيانات حسب المصالح المرجوة منها. نفس الشيء يحدث الآن، وما مشروع ضرب العراق الا مقدمة لرسم الخريطة التي تنشدها الولايات المتحدة للمنطقة، فهي القوة الفاعلة الآن مثلما كانت انجلترا وفرنسا في الربع الاول من القرن العشرين المنصرم. ومن الممكن لأي مراقب محايد ان يرى بالفعل مقدمات هذه الخطط بدءا بضرب العراق الى تهديد ايران وسوريا وانتشار المقالات المعادية لمصر والسعودية والحديث المباشر عن ضرورة الاصلاحات الديمقراطية في منظمة التحرير الفلسطينية وفي سائر الانظمة العربية بالتالي، وكأن الولايات المتحدة التي ترفض التعامل بديمقراطية في منظمة الامم المتحدة والانصياع لقرارات الاغلبية الدولية مولعة بالديمقراطية وتريد نشرها في كل مكان وبصفة خاصة في منطقة الشرق الاوسط. انما المقصود من كل هذا الضجيج هو اعادة رسم خريطة المنطقة بما يؤكد طواعية الانظمة العربية وخضوعها بصفة خاصة للدور الاسرائيلي الذي ينبغي ان يكون له قصب السبق فيها. وهنا لاحظ روبرت فيسك ان الادارة الامريكية وبصفة خاصة البنتاجون، اي وزارة الدفاع، راحت تستقطب اخيرا كل المتطرفين في تأييدهم للدولة العبرية والمعروفين بهوسهم الصهيوني وبمغالاتهم في الانحياز، ونقل عن مجلة The Nation الامريكية اسماء الموظفين الجدد الذين انضموا الى الادارة الامريكية مؤخرا وكلهم من غلاة المتطرفين الصهيونيين، ولم يفته بالطبع التصريح الغريب الذي قال به وزير الدفاع الامريكي رامسفيلد مستهجنا الاشارة الى الضفة الغربية الفلسطينية بأنها الاراضي المحتلة وأنها في الواقع اراضي اسرائيلية بحق الفتح.

ان الخطير هنا ان الاستراتيجية الامريكية بالنسبة لمنطقة الشرق الاوسط اصبحت متطابقة مع المشروع الصهيوني وأن تطويع المنطقة للسيادة الاسرائيلية اصبح هو الهدف الرئيسي للسياسة الامريكية. ولم تعد الولايات المتحدة ـ على أي حال ـ في حاجة الى التستر او اخفاء نواياها، فمنذ حوادث الحادي العشر من سبتمبر اصبح من حقها تشكيل العالم كله بما يتفق مع معتقداتها ومصالحها.

لقد مضى عام على هذه الحوادث المؤسفة، وما زال الناس في كل مكان تقريبا يشاركون الولايات المتحدة في مصابهم، ولكن المبالغات التي صاحبت ذلك في عالم بالغ الاضطراب ومليء بالمآسي المشابهة، خاصة في الشرق الاوسط المنكوب الذي يقتل فيها الناس من شيوخ ونساء واطفال كل يوم، لم تشعل من اجلهم شمعة او يشاركهم احد في الحزن عليهم، هذه المبالغات لم تمنع الكثير من الكتاب والمفكرين والسياسيين سواء في الولايات المتحدة ذاتها او في الدول الاوربية من أن ينبهوا الى خطورة النزعة الامبراطورية التي بدأت تظهر علانية في السياسة الامريكية وتهدد امن وسلام العالم.

حقا ان العالم كله ـ مع تعاطفه التام مع الشعب الامريكي ـ بدأ يدرك تلك المخاطر التي تنطوي عليها السياسة الامريكية، واذا كانت المعارضة داخل الولايات المتحدة لم تصل بعد الى رفض هذه السياسة بشكل مطلق، الا أن المجتمع البريطاني ـ على سبيل المثال ـ ومؤسساته المدنية وقف موقفا حازما ورفض جر بريطانيا الى حرب لم يؤخذ فيها رأي الشعب وممثليه ولم تشارك فيها الامم المتحدة بالرأي.

على أنه بعد كل هذا فأهل منطقة الشرق الاوسط هم المعنيون اولا في سطور هذه السياسة الجامحة وعليهم ان يواجهوها ويعيدوها الى الطريق السليم.