بنعيسى وبلاثيو احتمالان لهما ثالث

TT

سألتني مجلة «لا كلافي» الإسبانية عن الاحتمالات التي يمكن التكهن بها في أفق اللقاء المرتقب بين وزيري خارجية إسبانيا والمغرب، أنا بلاثيو ومحمد بنعيسى في غضون بضعة أيام، فقلت إن هناك احتمالين: إما أن يكون كل من الجانبين قد اقتنع بأن أزمة جزيرة تاورة قد كشفت عن أن هناك حدودا لمسعاه، ليس بعدها إلا المجهول، وبالتالي أنه من المفيد للجانبين معا أن تستعاد ديناميكية الحوار والتعاون، بدلا من المواجهة. وإما أنه على العكس من ذلك في إمكان الجانبين أن يتعايشا مع جو نصف القطيعة الحالي، الذي يسمح باستمرار التبادل، وحتى التعاون في ميادين محددة، مما يمكن أن نعتبره ضربا من التعاون البارد الآن، على ضوء ما نسمع وما نقرأ، يمكن أن أضيف احتمالا ثالثا وهو ألا ينعقد اللقاء بتاتا، أو ألا يحدث في وقت قريب، إذا ما تبين أن الظروف لم تنضج بعد لاستعادة ديناميكية الحوار. وهذا ممكن، وينبئ عنه أن الجانبين يتصرفان بشكل يفيد أن جو الانقباض ما زال يطبع موقف كل من الجانبين. انقباض طبع لقاء الرباط في 22 يوليو الماضي، حيث لم تستقبل الوزيرة الإسبانية في المطار من لدن نظيرها المغربي، وما زال يعبر عن نفسه بالمونولوغات الصادرة بين الحين والآخر من مدريد، بوتيرة أكبر، ومن الرباط أحيانا، لطرح تصورات عن تاريخ اللقاء وموضوعاته، ولكن لا أحد من الجانبين يترك عند المتلقي انطباعا واضحا عن روح ولون اللقاء المنتظر.

وما نراه على الشاشة في هذه الأيام السابقة للقاء هو استمرار الانقباض، والاختلاف الواضح بشأن الأجندة الممكنة للقاء. ولأحوم سريعا حول الاحتمالين المشار إليهما أعلاه، يمكن أن يكون الجانبان قد اقتنعا بأن التوتر الذي عمر حوالي ستة عشر شهرا قد استنفذ مبرراته، وبأنه آن الأوان لاستعادة الحالة الطبيعية للعلاقات الثنائية.

نعرف أن هذا التوتر بدأ يوم 21 ابريل 2001 بالتهديدات التي قذف بها السيد أثنار، رئيس الحكومة الإسبانية، إثر تمسك المغرب بموقفه بخصوص الصيد البحري أثناء المفاوضات التي كانت جارية بين الرباط وبروكسيل. ومر التوتر عبر محطة سحب السفير المغربي من مدريد في 27 أكتوبر الماضي، نتيجة تراكم عوامل الاستياء. ووصل أوجه بمظاهرة القوة في يوليو الماضي أولا حينما نظمت إسبانيا استعراضا بحريا أمام شواطئ مدينة الحسيمة، وثانيا حينما استعملت القوة لإجلاء ستة حراس مغاربة من جزيرة تاورة في 17 يوليو.

ولا بد أن الجانبين قد تبينا أن كلا منهما استعمل، طيلة هذا التوتر، كل ما في وسعه من أساليب الضغط التي بين يديه، بل إن إسبانيا تميزت بأنها وصلت إلى استعمال القوة.

ليس بعد هذا إلا اقتحام المجهول، والحد دون هذا المجهول رسمه تدخل أصدقاء الجانبين لإيقاف التصعيد. وقد شرحت سابقا ارتباط موضوع الخلافات الترابية المغربية ـ الإسبانية بالوضع في مضيق جبل طارق الذي هو ملف ثنائي يرتبط بقرار دولي.

إذن يمكن أن يكون إدراك الجانبين بأن كلا منهما قد وصل إلى الحد الأقصى الذي في وسعه، للتعبير عن وجهة نظره، قد أدى إلى الاقتناع بأنه لا مناص من استعادة لغة الحوار والتعاون.

وفي هذه الحالة، فإن المنطق يقتضي، أن يلتقي وزيرا الخارجية وفق أجندة تتضمن جميع المسائل التي يختلف بشأنها النظر، وتشكل لجان عمل لكل مشكلة، تنكب في ظرف يومين على تشخيص مشترك لتلك المشاكل، على أن يتابع الحوار بشأن كل مشكلة من المشاكل العالقة، تبعا للتوقيت الذي يفرضه كل ملف حسب طبيعته.

الاحتمال الثاني هو أن كلا من الجانبين يمكن ألا يكون قد توصل إلى اقتناع من هذا القبيل. أي أن هناك مشاكل لا يمكن التعرض لها، أو أنه لا توجد حلول أو حتى مقاربات متماثلة بشأن تلك المشاكل، وفي هذه الحالة، فإنه لا ضرر في أن يتعايش الطرفان في ظل نصف قطيعة، (السفيران مسحوبان من الجانبين) وفي ظل تعاون بارد، كما هو الحال الآن، حيث أن العلاقات السياسية الباردة أو المنقبضة، وحتى المتوترة، لم تحل دون استمرار التبادل التجاري، كالمعتاد. فالشاحنات الإسبانية لا تنعدم من الطرق المغربية وهي حاملة السلع في الاتجاهين، والاستثمارات الإسبانية في المغرب مرحب بها، وعملية عبور العمال المغاربة عبر التراب الإسباني تمت بسلاسة.

أي لأنه يمكن لاسبانيا والمغرب أن يتحملا عدم وجود حرارة في العلاقات، ويمكن أن يغني عن الحوار المباشر التزام كل دولة بما يمليه عليها تطبيق القوانين الدولية التي ترتب العلاقات بشأن العديد من النوازل. ويمكن أن يقع الخلاف على الأجندة.

من هنا يبرز الاحتمال الثالث، وهو ألا تكون هناك فائدة مرجوة من وراء اللقاء. إن الجانب الإسباني، وهو الأكثر تلقائية في تقديم المونولوغات التي أشرت إليها، يتركنا نتصور أن مدريد لن تقبل أن تخوض في مشكلة سبتة ومليلية والجزر. وتضع على الطاولة فقط، على وجه الاستعجال مشكلة الهجرة السرية. وليس للمغرب حساب يعطيه لأي طرف بخصوص الهجرة السرية. إن الإحصائيات تشهد بالمجهود الذي تبذله المصالح المغربية المختصة، أمنيا وقضائيا، لمحاربة الهجرة السرية. ويتلقى المغرب كل المغامرين عبر مضيق جبل طارق، ممن يثبت أنهم رعايا مغاربة. ولا يقبل أن يستقبل غيرهم ممن يفيضون عن حاجة إسبانيا. وهذه تتلقى من بروكسيل معونات مالية مهمة لمراقبة الهجرة عبر المضيق، بل وحتى لإقامة الجدار الإلكتروني حوالي سبتة ومليلية. وهو عكس ما حدث مع المغرب الذي لم يتلق إلا وعودا بهذا الشأن منذ 1995 ونفس الأمر بشأن محاربة المخدرات.

إذن يمكن للمغرب وإسبانيا، إما أن يتعاونا بندية وبجدية في هاتين المسألتين وفي غيرهما، مما هو مطروح عادة بين الجيران، وإما أن ينظف كل باب داره بمفرده، وهذا ليس أفضل من التنسيق والتعاون اللذين كانا من قبل.

وفي حديث إلى وكالة إيفي الإسبانية أضافت السيدة بلاثيو، بكيفية مفاجئة، بندا لم يكن قط، منذ اتفاقية مدريد سنة 1975، واردا في العلاقات الثنائية، وهو الصحراء، وقالت إنها مستعدة للحوار مع السيد بنعيسى حول هذه المسألة.

اجتهدت الديبلوماسيا الإسبانية منذ بعض الوقت في اقتحام ملف الصحراء، بغية أن تكتسب ورقة إضافية للضغط على المغرب. وها هي تتصور أنها قد أدركت تلك الورقة. وهي تريد الآن أن تستعملها في اتجاه المقايضة، على مشكلة سبتة ومليلية. لا يقع التعرض لهذا في مقابل عدم التعرض لذاك.

وهذه المقاربة، لا تنبئ عن أن الجانب الإسباني يريد أن يخوض حوارا منطقيا ومسؤولا ومنفتحا على المستقبل. وهذا حال الديبلوماسيا الإسبانية في التعامل مع المغرب منذ .1956 فحتى في عز السياسة الودية الحوارية التي سلكها فيليبي غونثالث مثلا إزاء المغرب، كان الهاجس التقليدي لدي محاورينا من مدريد هو عدم التخلص من النظرة الماضوية للعلاقات. فقد كانت الحكومة الاشتراكية هي التي فرضت قانون الأجانب على مغاربة سبتة ومليلية في 1985، وهي التي أعطت المدينتين نظام الحكم الذاتي في 1994 كمحاولة لتثبيت الصبغة الإسبانية قانونيا على المدينتين. ويتولى اليمين اليوم زيادة درجة في التصعيد والإصرار على المعالجة الشوفينية لهذا الملف. والذي يقحم ملف الصحراء، ويتمسك بعدم التعرض لملف سبتة ومليلية، إنما يريد أن يجمد علاقاته مع المغرب في حدود القرن السادس عشر، وهذه علامة على أن إسبانيا، على عكس غريمتها بريطانيا التي تريد أن تتخلص من مشكلة جبل طارق، لا تقوى على الانخراط في القرن الحادي والعشرين. وسيظل إصرار إسبانيا على التصرف بعقلية بائرة للنزاع الترابي حول سبتة ومليلية والجزر، خدشا في صورة إسبانيا، كبلد لم ينتم بالكامل إلى العصر.

كان الدكتاتور بريمو دي ريفيرا في العشرينات قد أقدم على التخلي عن سبتة في مقابل استرجاع جبل طارق. وفكر حكام يمينيون غيره في الانسحاب من الجزر المتوسطية المغربية لأن البقاء فيها ضرب من العبث. فهي صخور غير مأهولة تقع على بعد أمتار من الشاطئ المغربي، ولا تسع لسوى سارية ترفع عليها راية، وجندي يؤدي التحية لها بمفرده. وكان مبرر احتلالها في ما مضى أن تكون منطلقا للانقضاض على المغرب، ولا يمكن أن يقبل أن يكون هذا الهدف قائما.

وكان مجيء الديموقراطيا لإسبانيا قد هيأ الأذهان إلى أنه من الممكن تصفية هذا الوضع المضحك، كمرحلة في أفق التعرض بشكل عقلاني لمشكلة المدينتين. لكن خمرة الوطنية تستبد بساسة مدريد. وقد ساورت حتى ثاباتطيرو الذي أعلن باسم الاشتراكيين وقوفه إلى جانب أثنار في الدفاع عن الصبغة الإسبانية (كذا) لجزيرة تاورة، إن التمسك بموقف من هذا القبيل، يخدش انتماء إسبانيا إلى الحداثة. واشتراط عدم لمس الموضوع، لا يدل على الرغبة في استئناف ديناميكية الحوار.