تداعيات سبتمبر

TT

علمونا ان الحكم على شيء فرع عن تصوره، واصبح المطلوب منا بعد سبتمبر ان ننسى كل ذلك، وان نغلق عيوننا ونوصد افئدتنا ولا نبصر الا ما يطلب منا رؤيته، فنرى الدائرة مربعا والمستطيل شبه منحرف والمنحرف اكثر استقامة من مريم المجدلية.

ولعلي اتساءل: من الذي لم يتحدث بعد عن احداث سبتمبر ولم يحاول التعمق في تحليل قضايا لا يعرف معطياتها الاولية، لمجرد الا يعتبر متخلفا عن ركب المفكرين الذين يواجهون آفة الارهاب الاجرامي بشجاعة عنترة وصلابة هرقل وتجرد ابي ذر الغفاري.

مر هذا في خاطري وانا اتابع الصور التلفزيونية التي صورت محاولة اغتيال حميد قرضاي (والاسم يكتب بالضاد لان اهل المنطقة ينطقونها زايا، مثل ضياء الحق التي تنطق زياء الحق)

والذي حدث هو ان التعليق الاخباري كان في جانب والصورة كانت في جانب اخر، لمجرد ان معد الخبر الرسمي لم يكن يتصور انه سيتلى على تلك الصورة.

وما رأيته اثر اطلاق النار على رئيس الدولة المستوردة مباشرة ان رجلين انقضا على ثالث، المفروض انه هو الذي اطلق النار، والقيا به ارضا، مما يعني انهما كانا من رجال الحراسة الافغان، وفجأة سمعنا طلقات رصاص تأتي من خلف الموكب، لكن الخبر الذي تم بثه تحدث عن ثلاثة قتلى اردتهم الحماية الامريكية المرافقة لموكب الرئيس المذكور اعلاه، والمفروض ان نفهم ان القتلى الثلاثة كانوا من الجناة، وهو ما تتناقض معه الصورة وما لم يشر له الخبر صراحة، وتلك صورة بالغة الدلالة يمكن ان نطبقها على معظم الاحداث التي عرفها العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وكان علينا ان نبلع كما هائلا من التحليلات التي لا يقبلها منطق ولا يصدقها عقل، وان نتناسى، في الوقت نفسه، قضايا اكثر اهمية بالنسبة لشعوبنا ولامتنا.

وهكذا كان مفروضا ان يغلق العالم عيونه واذانه امام المأساة الرهيبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني والتي وصلت الوقاحة فيها الى درجة منع منظمة الامم المتحدة من القيام بتحقيق ميداني يثبت الحقائق ويكشف الاكاذيب، ثم يفرض على المنظمة الاممية ان تتخذ قراراتها وتوصياتها طبقا لما يمليه المندوب الامريكي في نيويورك على الرجل الذي كاد يكون شاهدا.. ما شافش حاجة.

ووصلت الاستهانة بعقول الناس الى درجة ان الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش اطلق على شارون، السفاح المعروف، تعبير: رجل السلام، وليس هناك في كل القواميس العالمية وبكل اللغات وصف واحد يمكن ان يطلق على هذا التصرف الذي يرتكبه رئيس اكبر دولة في العالم تجاه اصدقائه في الوطن العربي.

وكان علينا ان ندرك على الفور ان ذلك ايذان بالعصر الاسرائىلي، الذي لا نملك الا ان نواجهه او ان نتكيف معه.

وليس هناك احتمال ثالث او امكانية اخرى.

ولاننا سكتنا راحت الابواق الامريكية تطلق وصف الاعداء على الذين لم يكن ممكنا للولايات بدون دعمهم الاجهاز على خصمها اللدود المتمثل في الكتلة الاشتراكية، ثم تهدد بالاستيلاء على الارصدة العربية التي يعرف الجميع انها تمثل دعما اقتصاديا للورقة الخضراء.

ولم تكن الولايات المتحدة هي الجهة الوحيدة التي استفادت من تفجيرات سبتمبر، فقد راحت الحكومة البريطانية تحاول من جديد التميز عن المواقف الاوروبية باتخاذ موقف الانحياز الشامل والمطلق لسياسة واشنطن، وبدا الاسد البريطاني هزيلا الى درجة ان كثيرين لم يصدقوا انه كان بالفعل يوما ما اسدا لا تغرب الشمس عن مملكته.

وكانت فرصة لبعض انظمة الحكم في العالم الثالث لتصفي حساباتها مع خصومها السياسيين، وهكذا اصبحت كلمة الارهاب هي الرصيد الذي لا ينفد لكل المناورات السياسية التي تتجاهل ارادة الشعوب، فمن ذا الذي يجرؤ على ان تشوب سمعته شبهة الارتباط باسامة بن لادن، حتى عبر حلم مزعج بعد اكلة دسمة في يوم قائظ الحر.

وهكذا نكتشف اننا كدنا نصبح مسلوبي الارادة تماما، وصرنا نتحرك كشاة تساق يوم النحر الى المذبح.

وهكذا تهدد الولايات المتحدة بالهجوم على العراق سواء قبل المراقبين الامميين او لم يقبل، وسواء ثبت انه يملك اسلحة دمار شامل ام لم يثبت، وسواء قبل حلفاء واشنطن عربا وعجما، طروحاتها ام لم يقبلوا.

وتروح واشنطن تقدم لنا طبعات مطورة من الاستعدادات للهجوم على خليج الخنازير في كوبا، وتبدو ملامح تقسيم اكثر من بلد عربي كبنود في القائمة التي تبدأ بالعراق وقد تمر بالسودان ولن تتوقف في الجزائر او في المملكة العربية السعودية.

وتأتي هنا صور الفيديو التي اكتشفت مؤخرا وتقدم لنا صور المتهمين وهم يعدون خطط تفجيرات سبتمبر.

واحس على الفور بتقلص كل امكانية لتقبل الرواية الامريكية، واكاد اتصور عمليات الاختراق بعيد المدى، الذي تعرض له كل الذين جندوا يوما لمحاربة الاتحاد السوفيتي، وكان من بين ما يجري اعدادهم له، هو ان يكونوا متهمين جاهزين عند الضرورة، تماما كما حدث مع رجل اسمه «ازوالد» ذات يوم في التكساس، حيث كان علينا ان نصدق ان الرجل اطلق ثلاث طلقات متتالية في وقت زمني مستحيل التصديق والتنفيذ.

ولعلي اعترف هنا بانني لم اشعر بعذاب الكتابة كما شعرت بها عند كتابة هذا الحديث، حيث كان مجرد الشعور بأنني لا املك كل المعطيات يجعل اصابعي تتجمد فوق ازرار الحاسوب.

لكنني لم اكن املك الا ان اكتب لأقول إن كل الصور الهوليوودية التي امطرنا بها طوال سنة كاملة لم تفلح في اقناعنا بالتسليم المطلق بصحة التهم الموجهة لمن حملوا الوزر المباشر لتفجيرات نيويورك على وجه التحديد.

ويبقى ان ندرك ان معطيات الصراع الحضاري اصبحت اليوم اكثر من واضحة، وليس هناك مجال لاصباغ تخفي الوجه البشع للاستعمار الجديد، الذي كان بعضنا يتصور انه شبح وهمي كذلك الذي يخيفون به الاطفال في ظلام الشتاء.

الخطر حقيقي، وهو يستهدف وجودنا نفسه، كأمة وكحضارة، بل وكوجود بشري يطالب بحقوقه الاساسية في الحياة.