السوق النفطية بين تهميش وتهميش

TT

مع تجاوز سعر برميل النفط 30 دولارا للبرميل من خام «ويست تكساس» الاميركي و28 دولارا لخام «برنت» البريطاني، وهما خاما الاشارة الأساسيان في السوق، فان أسعار النفط تكون قد حققت أعلى معدل لها خلال عام من الزمان.

وهذه أخبار سارة لمنتجي النفط الذين يعانون من متاعب مالية متعددة من عجوزات في الموازنات الى نمو في الدين العام، الأمر الذي يجعل أي دخل أضافي أمرا مرحبا به، لكن هذه الجرعة الاضافية من العائدات النفطية تخفي وراءها أقراصا مرة المذاق قد يتعين بلعها فيما بعد.

فالارتفاع الحالي قصير العمر ومرتبط بالحالة النفسية للسوق، أكثر من اعتماده على أساسيات تجعله مبررا، وهو في النهاية معدل سعري لا يرغب فيه المنتجون على المدى البعيد. ويعود الارتفاع بصورة رئيسية الى طبول الحرب التي تدقها واشنطون معلنة عن عزمها على شن حرب على العراق يعتقد أنها ستؤدي الى وقف الصادرات العراقية من ناحية والى احتمال قيام العراق بتعطيل بعض صادرات الدول الخليجية المجاورة، وهو أضاف ما أصبح يعرف بعلاوة الحرب وهو مبلغ يتراوح بين ثلاثة الى خمسة دولارات للبرميل الواحد.

لكن من الواضح أن العراق أصبح يلعب دورا هامشيا كونه منتجا ومصدرا للنفط الى الأسواق. فمتوسط انتاجه خلال الربع الثاني من هذا العام تراوح في حدود مليون ونصف المليون برميل يوميا، ارتفع الى مليونين في الربع الحالي، بينما تتوفر لدى أوبك طاقة انتاجية فائضة تتجاوز الخمسة ملايين برميل يوميا، حوالي ثلاثة أخماسها في السعودية وحدها.

أما التخوف من أن يعمد العراق الى توجيه ضربة صاروخية الى دولة منتجة مجاورة بهدف وقف الصادرات النفطية من باب علي وعلى أعدائي، فانها تبدو احتمالا بعيدا، اذ هي غير مبررة من الناحية السياسية بعد المعارضة العلنية من كل الدول العربية لفكرة الضربة العسكرية لازاحة النظام العراقي بالقوة.

وحتى مع استبعاد هذا الاحتمال فان سجل العراق في ما يتعلق بقدرته على توجيه ضربات مثل هذه يبدو بائسا. فهو لم يستطع توجيه مثل هذه الضربة أبان حرب الخليج الثانية عندما أرغم على الانسحاب من الكويت. والآن وبعد مضي عشر سنوات من الحصار وتدمير الكثير من قدراته العسكرية، فان العراق اليوم أضعف مما كان يمكن أن يقوم به في ذلك الوقت ولم يتمكن من تحقيقه.

على أن هناك تجربة أخرى أكثر أهمية، تعود الى أواخر سنوات حربه مع ايران. فعندما بدأ الميزان يميل الى صالح ايران أعلن العراق عن رغبته في وقف القتال، وهو ما رفضته ايران الخميني وقتها واضعة الشرط الوحيد لايقاف القتال أن يتم تغيير النظام. وهذا الموقف دفع العراق الى بدء هجماته الجوية على جزيرة خرج التي تمثل المنفذ الرئيسي لصادرات ايران النفطية والهدف وقف تلك الصادرات ومن ثم تعطيل انسياب الأموال مما يسهم في تعطيل آلة الحرب الايرانية ودفعها الى طاولة التفاوض.

لكن رغم السيادة الجوية التي كان يتمتع بها العراق وقتها في حربه مع ايران، ورغم المساندة الضمنية التي وفرتها له الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، الا ان الغارات الجوية المتتالية لم تحقق للعراق هدفه بوقف صادرات ايران النفطية.

هذه الوضعية الهامشية التي وجد العراق نفسه فيها بسبب السياسات التي اتبعها، ستجعل من اليسير على السوق النفطية التوصل الى قناعة أن انقطاع الصادرات العراقية عن الأسواق لن تمثل خطرا على الامدادات وليست لبغداد القدرة على وقف صادرات المنتجين الآخرين النفطية، ومن ثم ينفتح المجال أمام تراجع في الأسعار، بعد ازالة العوامل الاضافية التي رفعت السعر الى مستواه الحالي.

الانخفاض المتوقع هذا سيكون الخطوة الأولى أمام خطوة أخرى أكثر صعوبة ومرارة وتتعلق بما يمكن أن تقوم به أوبك لوقف التراجع المنتظر في الأسعار، وهو تراجع قد يتعمق حجمه ويزداد أمده بقدر طول الفترة التي بقيت فيها الأسعار مرتفعة بصورة ليست مبررة، حتى تكتمل فترة التصحيح وليستقر السعر عند وضع معين يعكس توازن العرض مع الطلب وأساسيات السوق.

ملامح هذه الفترة أصبحت تتشكل في السؤال حول ما ينبغي أتخاذه في اجتماع المنظمة المقبل في أوساكا اليابانية منتصف هذا الشهر، وهل يرفع السقف الانتاجي أم يبقى على حاله؟ وعلى غير حالة الخلافات العادية فان تباين المواقف هذه المرة يعكس قلقا من الحالة الهامشية التي وجدت أوبك نفسها فيها.

فالدعوة الى تعديل السقف تنطلق من ناحية أن الدول الأعضاء تنتج في الوقت الراهن فوق حصصها بنحو مليون ونصف المليون برميل يوميا على أقل تقدير والرفع الرسمي للانتاج قد يقنن هذا الوضع. هذا بالاضافة الى الخوف من سيطرة منتجين من خارج المنظمة على حصة أكبر في السوق متى ظلت أوبك في حالة تقييد لانتاجها.

أما في حالة ابقاء السقف على وضعه الراهن، فان السؤال يصبح ما العمل اذا تراجعت الأسعار وحدثت تخمة، فهل في مقدور أوبك اجراء تخفيض جديد في سقفها الانتاجي، علما أنها خفضت خمسة ملايين برميل في غضون عام واحد، ولم تقم بالتخفيض الأخير الا بعد قيام المنتجين من خارجها بتخفيض رمزي في اشارة لتكاتف المنتجين عموما في الدفاع عن الأسعار.

ويزيد في بروز هامشية وضع أوبك في السوق الشلل الواضح في قيادتها منذ تبعثر جهود ثلاثي السعودية وفنزويلا والمكسيك الذي مثل القيادة الفعلية للسوق النفطية خلال السنوات الأربع الماضية. وهكذا تزامنت ولأول مرة حالة ضعف أوبك وتأثيرها على السوق مع ضعف في قيادتها، اضافة الى تغييرات عديدة طالت السوق مع بروز منتجين جدد واتساع دائرة التعامل والتأثير التقني خاصة في الجانب المعلوماتي والسياسي.

لقد أصبح العراق مثالا على حالة التهميش المشار اليها. فالقرار الخاص بالصناعة النفطية العراقية من حجم الانتاج ومنافذ التصدير وحتى قطع الغيار خرج من يد العراق وبالتالي من يد أوبك ليصبح في يد الأمم المتحدة، وعمليا الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، بكل ما يعنيه ذلك من وجود قرار يخص دولة منتجة في أيدي مستهلكين لهم أجندتهم الخاصة بهم، ولتتسع من ناحية أخرى مساحة الانتاج النفطي الذي لا تسيطر عليه أوبك، مما يفاقم من حالة التهميش التي تعاني منها.

وهذا الوضع الذي برز منذ بضع سنوات ومنذ بدء تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء يعتبر اشارة الى عهد جديد لا يزال في مرحلة التشكيل، الأمر الذي يفرض تحديات جديدة ومتنامية على الحلم القديم أن تكون أوبك طليعة العالم النامي في الضغط باتجاه وضع عالمي أكثر عدالة.