هل من مشترٍ؟!

TT

دخل الأستاذ الجامعي إلى قاعة المحاضرات بإحدى الجامعات الأمريكية المقامة في لندن، وقد بدت على وجهه علامات التأثر، مُذكّرا الطلبة أن الغد سيوافق الذكرى الأولى للحادي عشر من سبتمبر، طالبا من جميع الحاضرين أن يقفوا، صبيحة هذا اليوم، دقيقة حداد على الضحايا الذين قضوا نحبهم في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وجه أحد الطلبة العرب حديثه إلى أستاذه قائلا.. جميعنا نقدر مصابكم، وسيقف جميع الطلاب العرب حدادا، بشرط أن لا يقتصر الأمر على ضحاياكم، ولكن يشمل أيضا الضحايا العرب والمسلمين في كافة أقطار الأرض، بدءا من فلسطين، ومرورا بكشمير والهند والشيشان والفلبين وهلمجرا. احتقن وجه المحاضر، وتمتم بعبارات غير مفهومة، ثم خرج من القاعة دون أن يعلق على كلام الطالب!!

أحيانا أسأل نفسي عن سبب رخص الدم العربي والإسلامي مقارنة بدماء الشعوب الأخرى!! لماذا تُقام الدنيا ولا تقعد حين يموت أحد منهم، ولا يتحرك أحد قيد أنملة من أجل الضحايا الذين يموتون منا بالمئات يوميا؟! لماذا لا يتعاطف العالم مع قتلانا بجدية، كما يتعاطف مع الشعوب الأخرى؟! هل لأن بعض الانظمة العربية أشد قسوة في تعاملها مع ابنائها مقارنة ببطش الغرباء؟! هل يعود الى ان الفرد العربي صفر على الشمال، وجوده وعدمه واحد على الكرة الأرضية؟! هل يرجع إلى الشخصية العربية التي نشأت في مستنقع العنف، والتي تصبح وتمسي على هذا المسلسل الدرامي الدائر أمامها، جعلها تتعود على مشاهد القتل ومناظر الدم، دون أن يرجف لها جفن، كما يرى بعض المثقفين؟! أم أن التبلّد الحسي غدا جزءا لا يتجزأ من التركيبة العربية بحكم ثقافة الاستبداد التي تغذت عليها الأجيال جيلا بعد جيل؟! إن نظرية علم التربية الحديث، ترفض توجيه النشء الجديد على الضرب بالعصا، ويرى علماء النفس أن أسلوب الضرب له آثار سلبية خطيرة، تؤدي إلى تبلّد في الأحاسيس، وتنمية بذرة العدوانية في دواخلهم مع مرور الوقت. هذا ما حصل مع الأمة العربية، التي أصاب مشاعرها العطب من كثرة الصفعات التي تنهال عليها من كافة الاتجاهات، وقديما قالوا في أمثالنا الشعبية «أضرب في المتبلّم يصبح ناسي»!! حتى باتت الأمة العربية تسير بذاكرة مثقوبة، كلما تساقط جرح، داوته بجراح جديدة، وبلغت ذروة اليأس الى الحد الذي دفعها للكف في البحث عن طبيب ماهر يداوي جراحها الغائرة، التي تركت علامات فارقة على جسدها العليل.

إن ضحايانا إبان الاستعمار الأجنبي يعدون بالملايين، مع هذا تعاملنا مع جلادي الأمس بنظرية عفا اللّه عمّا سلف، وقلبنا صفحة الأمس حتى يصدق العالم بأننا أمة متسامحة لا تلتفت للماضي، لكن يظهر بأننا رضينا بالهم والهم لم يرض بنا، وجاء الحاضر ليكون أصعب مرارة من الماضي، وصار الدم العربي والإسلامي يُراق ببساطة في الأزقة الجانبية، حينا على يد ابناء جلدتنا، وحينا آخر على يد أعدائنا، كأن قدر هذه الأمة ان تعيش في قلاقل إلى يوم الدين!!

لماذا لم يقف العالم دقيقة حداد على الأفغان الأبرياء الذين قتلوا بالآلاف في الحرب الدائرة ضد «القاعدة»، دون أن يفكر أحد بمشاركتنا أحزاننا؟! لماذا لم يصرخ العالم في وجه أمريكا، حزنا على ضحايا حفل العرس الأفغاني، الذين قُضي عليهم بالخطأ كما يقولون؟! لقد تخيلت منظر العروس التي تلطّخ ثوبها بدم قومها، أعلن بعدها المسؤولون في أمريكا أسفهم على الضحايا المدنيين الذين ماتوا بسبب الغارة الجوية، ملقية اللوم على بعض الحضور الذين أطلقوا رصاصات في الهواء ابتهاجا بفرحتهم، وأُسيء فهم مقصدهم من قبل الطيارين الأمريكان، كأن هناك رسالة مفادها بأنه ممنوع على الإنسان عندنا أن يعبر عن أفراحه، والأسلم له كتمانها حرصا على سلامته!! وتم تعويض الأهالي في نهاية الأمر بحفنة من الدولارات لكل ضحية أفغاني!! ومقابل كل إسرائيلي يقتل في فلسطين، يتم الرد بقتل عشرات من الفلسطينيين وتدمير وتشريد أهاليهم، تعلن بعدها أمريكا إدانتها للقتلة الفلسطينيين، وتوجيه بعض اللوم الممزوج بالعتاب للطرف الإسرائيلي.

ألم أقل لكم إن الدم العربي والإسلامي أرخص من أن يتم التفاوض عليه!! للأسف في عالمنا العربي والإسلامي هذه المعاناة صارت جزءا لا يتجزأ من حياة الفرد، جعلت الكثيرين لا يتعاطفون مع حدث أمريكا الجلل، ليس بسبب مواقف شخصية معادية لشعوبهم، أو شماتة في مصابهم، ولكن الحكم عليها من منظار فواجعهم المتوالية، وآلامهم التي لا تنتهي!!

لقد عقدت الدهشة لسان العديد من الناس، حينما عقدت وزارة الخارجية مؤتمرا لفهم أسباب العداء للولايات المتحدة الأمريكية، ووضع خطط مدروسة لمحاربتها، دون أن تحاول إلقاء سؤال على نفسها، «إن كان العيب فيها ولاّ في حبايبها»!! وقد أعلن رئيس جنوب أفريقيا السابق «نيلسون مانديلا»، أن الولايات المتحدة الأمريكية تُشكّل تهديدا للعالم بسبب مجموعة أخطاء ارتكبوها في مجال السياسة الخارجية. أليس في كل هذا دعوة مبطنة لمراجعة نفسها!! ألم يحن الوقت لأن تختار أمريكا بعد مرور عام على أحزانها بين طريقين، إما أن تكون ديناصورا يصر على العيش في عالم لا يتسع لهذا الحيوان المنقرض، وإما أن تكون جزءا من العالم المتحضر الذي يسعى إلى تحقيق السلام على الأرض، على أن لا تزمجر غاضبة كالطفل الصغير، حين لا يُلبي أحد مطالبه، يقوم في لحظة طيش بتحطيم كل ألعابه المحببة إلى نفسه!!

قديما قالوا في أمثالنا الشعبية «عزَّ نفسك تجدها». بمعنى إذا أهنتها، هانت على غيرك، وسحقك الجميع تحت أقدامهم!! لنقف دقيقة حداد على ضحايا الحادي عشر من سبتمبر الذين لا ذنب لهم، لكن ليس لهم وحدهم، بل لجميع الضحايا الذين يذبحون في مختلف أقطار العالم، ولم نسمع عن صوت يُطالب بلبس السواد عليهم يوما واحدا!! صدقوني.. دمنا العربي والإسلامي غال، فلننصب المزاد عسى أن يكون هناك مشترٍ صادق، ينقذ هذه الأمة من بيعها بثمن بخس!!