هل تعيش الولايات المتحدة الأمريكية مكارثية جديدة؟

TT

كثيرة هي الدلائل التي تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 الأليمة، واقعاً يشبه إلى حدّ كبير ذلك الذي عاشته خلال أكثر مراحل الحرب الباردة تأزماً، أعني بذلك «الماكارثية». ففي ذلك الوقت، كان العدو الأول بالنسبة للولايات المتحدة هو ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي. وخوفاً من الخطر الشيوعي، جنّدت قوات خاصة لترهيب وملاحقة المثقفين والسياسيين الأمريكيين الذين يظهرون نوعاً من التعاطف تجاه الشيوعية، أو يعارضون السياسة الرسمية القائمة على «ضرورة الاستعداد لمواجهة العدو»، أعني أي الاتحاد السوفياتي. حتى أولئك المثقفون اللامبالون، والذين كانوا يرفضون الانخراط في «ضجيج السياسة وأهلها» وصفوا هم أيضا بـ «الحمر»، وسجلت اسماؤهم على القوائم السوداء. ويقول المؤرخ البريطاني ايريك. ج. هوبسباوم (Eric. J. Hobsbawm)، ان الخوف من الشيوعية دفع العديد من المسؤولين الكبار إلى ارتكاب الكثير من «الحماقات»، وأن التسلح أصبح يحتل المرتبة الأولى في السياسة الأمريكية.

واليوم يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه على ارض «العم سام»، فالمعارضون لسياسة الرئيس بوش، بخصوص حربه ضد الارهاب، أو بشأن الحرب التي يعتزم شنها ضد العراق، يعاملون كما لو أنهم أعداء لمصالح الأمة الأمريكية بأسرها، بل وللعالم الحر بأكمله، والأمثلة على ذلك كثيرة. ففي مطلع العام الحالي، أبدى السيناتور الديمقراطي توماس داشل، تردداً أمام اعتزام الرئيس بوش شن حرب ضد العراق، قائلا ان الحرب لم تنته بعد في افغانستان، وان الأمريكيين لن يكونوا في أمن، حسب رأيه، إلا بعد أن يكونوا قد قضوا نهائياً على تنظيم «القاعدة» وزعيمها أسامة بن لادن. وقد أثار هذا التصريح غضب العديد من أنصار الرئيس الأمريكي، خصوصاً توماس دافيس الثالث، ممثل ولاية فيرجينيا، الذي اتهم داشل بـ «العمل لصالح الأعداء». وقال برلماني آخر، يدعى ترانت لوت: «كيف يسمح السيناتور داشل لنفسه بانتقاد الرئيس بوش في الوقت الذي تخوض فيه بلادنا حربا ضد الإرهاب، اذ يوجد جنودنا على ارض المعركة؟ اننا نرفض ان يحاول تقسيم بلادنا في حين انها موحدة ومتضامنة».

وأمام هذا الغضب العارم الذي أثارته تصريحاته اضطر السيناتور داشل إلى التراجع. وعلى لسان سكرتيره الخاص صرح قائلا: «البعض اختاروا أن يروا في كلام السيناتور داشل بخصوص الحرب ضد الارهاب نقداً للرئيس بوش، والحقيقة أن كلامه لا يحتوي على أي نقد لا ضده ولا ضد حملته على الإرهاب».

وفي تكساس، معقل الرئيس بوش، طُرد صحافي من عمله لأنه كتب يقول انه ـ أي الرئيس بوش ـ كان أشبه بـ «طفل مذعور» عقب احداث 11 سبتمبر.

وكذا كان مصير منشط تلفزيوني وصفه بـ «الجبان». وفي كاليفورنيا، وخلال حفل انتظم بمناسبة تسليم الشهادات الجامعية، ثارت ثائرة آلاف الأشخاص ضد واحد قال بأن الحرب ضد الإرهاب يمكن أن تضرّ بالحريات المدنية والشخصية.

وبالرغم من أنه أدان بشدة عمليات 11 سبتمبر الإرهابية، فإن ادوارد سعيد هوجم بعنف من قبل العديد من المثقفين اليمينيين واليساريين فقط لأنه كتب يقول بأن تلك العمليات لم تكن لتقع لو أن الولايات المتحدة لم تكن في حرب شبه دائمة، معلنة وغير معلنة ضد مناطق مختلفة من العالم الإسلامي. وقد ردّ عليه أحد المثقفين، ويدعى تود جيتلاين قائلا: «فكما لو أن كلام السيد ادوارد سعيد يعني أن الولايات المتحدة الامريكية تبحث دائما عن الحرب وعن الخناقات. وكما لو أن الدعم الذي قدمته لمشروع السلام في اوسلو، حتى ولو كان محدوداً، لم يكن له أي معنى وباستطاعتنا أن نمحوه بجرة قلم. وكما لو أن الدفاع عن مسلمي البوسنة وكوسوفو يذكرنا بسياسة القوة التي طبقت في فيتنام وكمبوديا».

ولأن المفكر ناعوم تشومسكي كتب يقول ان أجهزة الاستخبارات الأمريكية ساهمت إلى حدّ كبير في تقوية بن لادن وأنصاره أيام الحرب ضد الجيش السوفياتي في افغانستان، وحتى بعدها، فإن عددا من المثقفين وجدوا في كلامه المعقول والصريح، هذا ما أثار غيظهم. وباسم هؤلاء ردّ عليه كريستوفر هايتشنس يقول بأن مقترفي هجمات الحادي عشر من سبتمبر يمثلون هذه «الفاشية الجديدة»، التي لها وجه إسلامي، وأن البحث عن مبررات لما قاموا به، هو برأيه شكل من أشكال الديماغوجية التي تجب مقاومتها. وفي نفس السياق، كتب بول بيرمان وهو عضو في هيئة تحرير مجلة Dissent الاشتراكية الديمقراطية يقول: «إن الجريمة الحقيقية للولايات المتحدة الامريكية، هي انها الولايات المتحدة الامريكية، وهذه الجريمة تتمثل في أن شعبها يتنفس حيوية ثقافة ليبرالية لا تنفك تتطور يوما بعد آخر (..)، ان جريمة امريكا هي قدرتها على أن تظهر ان المجتمعات الليبرالية يمكنها أن تتطور، وتتقدم، في حين أن المجتمعات المعادية لليبرالية لا تستطيع ذلك، وهذا ما يثير غضب وحسد وهيجان الحركات الرجعية».

ويرى بول بيرمان، ان الخطاب الذي ألقاه بوش يوم 20 سبتمبر 2001، والذي دعا فيه جميع الدول الى ان تكون مع الولايات المتحدة الامريكية، وإلا فإنها ستحشر في خانة البلدان المشجعة للارهاب والحاضنة للارهابيين، كان رائعا وجد واقعي في تقديمه للصورة الحقيقية للعدو، واضاف قائلا: «ان محاربة الارهاب تتطلب تغييراً جذرياً في الثقافة السياسية للعالم الإسلامي. وهذا التغيير، لن يتم إلا بمساعدة الدول الليبرالية التي عليها أن تلجأ إلى وسائل عسكرية وأخرى اقتصادية لإنجاح ذلك».

وبفضل هذا الدعم الكبير الذي تلقاه الرئيس بوش من قبل أغلب المثقفين الامريكيين، بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، بدأ الاتجاه المحافظ الذي ظهر أيام الفترة الماكارثية وايضا أيام الرئيس رونالد ريغن، يشعر بالارتياح، وبات ماسكاً بزمام الأمور، وقادراً، أكثر من أي وقت مضى، على فرض أفكاره. وهذا ما يفسر العزلة الرهيبة التي يعيشها المثقفون المناهضون له، والمختلفون معه، خصوصاً بشأن السياسة الخارجية التي شرعت الولايات المتحدة الامريكية في تطبيقها منذ احداث 11 سبتمبر.