فلسفة البيانات السياسية في المعسكرات المتقابلة

TT

من أهم الظواهر التي برزت بعد الأحداث الأليمة التي تعرضت لها الولايات المتحدة يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، صدور عدد من البيانات التي تحدد مواقف كاتبيها والموقعين عليها من تلك الأحداث. وقد بدأ هذه الموجة من البيانات، البيانُ الشهير الذي وقعه ستون من المثقفين اليمينيين الأمريكيين. وأثار ردود فعل واسعة في الصحافة العربية، وأصدرت مجموعات عربية مختلفة بيانات عديدة تحدد مواقفها من تلك الأحداث ومن البيان ايضا.

في مقابل ذلك، أصدرت عدة أطراف أمريكية وأوروبية بيانات تعترض فيها على المنطلقات التي استند إليها بيان الأمريكيين الستين، وتناوئ تبعا لذلك إجراءات «الحرب ضد الإرهاب»، التي اتخذتها الإدارة الأمريكية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وتتميز البيانات الأخيرة بنقد مبدئي صارم لكل المستندات القانونية التي أسست الإدارة الأمريكية رد فعلها عليها.

وتتجاوز البيانات والتعليقات العربية نقدها لرد الفعل الأمريكي، ومعارضتها لما تخطط له الإدارة الأمريكية في حربها ضد كل من تكتشف، أو تعتقد أن له صلة بما تسميه «بالإرهاب»، الى الاحتفاء بالبيانات التي وقعها الأمريكيون والأوروبيون المناوئون للسياسة الأمريكية، في مقابل التشنيع على بيان المثقفين الأمريكيين الستين واتهامهم بالدفاع عن وجهة النظر الرسمية الأمريكية من دون انتقادها، ووصفهم بأنهم مدفوعون بالروح الوطنية الشوفينية على حساب الحق والعدل، وبالمحافظة والرجعية وخدمة السلطة الرسمية ومعاداة الشعوب.

لكننا حين نتأمل في بيانات الأمريكيين، المناهضين للسياسة الخارجية الأمريكية، نجد أن هؤلاء يؤسسون مناهضتهم على بعض المبادئ النابعة من السياق الاجتماعي والسياسي الأمريكي.

فمن الواضح جدا في البيانات التي أصدرها هؤلاء، أنهم ينطلقون من مبدأ مهم جدا، فهم يرون أنفسهم مواطنين ينتمون الى مجتمع ديموقراطي يتمتع فيه الفرد بحرية التفكير والتعبير والعمل، ويرون أن لهم في هذا المجتمع الديموقراطي، الذي تأتي زعاماته نتيجة لتفويض شعبي، حقَّ الرقابة على ما تفعله هذه الزعامات، بل أكثر من ذلك، يرون أنفسهم مسؤولين مسؤولية مباشرة عما تفعله هذه الزعامات لكونهم شاركوا في وصولها الى سدة القيادة بصورة أو بأخرى.

وللدلالة على مدى شعور هؤلاء بهذه المسؤولية، يمكن أن نقرأ بعض التعبيرات التي وردت في تلك البيانات: يقول الموقعون على بيان «رسالة من المواطنين الأمريكيين الى أصدقائهم في أوروبا»: «. . .نشعر، نحن بوصفنا مواطنين أمريكيين، بمسؤولية خاصة تحملنا على معارضة هذه الهبَّة المجنونة للحرب». و«. . .إن التضامن مع ضحايا القوة العسكرية الأمريكية هو السبيل الوحيد الذي يمكننا به نحن مواطني البلدان الغنية أن ندافع عن أية قيمة من القيم الكونية التي ندعي أننا نتمتع بها».

ويقول الموقعون على بيان «ليس باسمنا»: «إننا نعتقد أنه يجب على أصحاب الضمائر الحية أن يتحملوا مسؤولية ما تفعله حكومتهم ـ ويعني هذا أن أول واجباتنا أن نعارِض الظلمَ الذي تمارسه الحكومة باسمنا نحن».

لذلك، فما يحرِّك هؤلاء المناوئين الأمريكيين لسياسة بلادهم العسكرية والديبلوماسية ، إنما هو شعورهم بأنهم مواطنون أحرار يتمتعون بالقدرة على التصريح بآرائهم بحرية كاملة في سبيل الرقابة على هذه السياسة.

أما البيانات العربية فيجمع بينها الاقتصار على توجيه النقد للسياسة الأمريكية، في الوقت الذي تكاد تخلو فيه من أي نقد للأوضاع الاجتماعية والسياسات العربية التي كانت ولا تزال من أهم العوامل التي مهدت لوقوع هذه المصائب على رؤوسنا.

فلم تَعرِض هذه البيانات الى تسلط شرائح محدودة على المسرح السياسي في الدول العربية طوال عقود. وهو التسلط الذي أدى الى إلغاء إنسانية الإنسان العربي وكرامته، مما مكَّن هذه الشرائح المحدودة من التحكم في مصير هذا الوطن ومقدَّراته وحرمان مواطنيه من أية مشاركة في تسيير شؤونه. وقد أوصل ذلك الإنسانَ العربي الى نتيجة مفادها أن هذا المكانَ الذي يعيش فيه مكانٌ غريب لا يعنيه: إذ يزيد من شعوره بعدم القيمة والأهمية في هذا المكان، خلوُّ ضميره من أية عاطفة نحوه. لقد كاد الناس في البلاد العربية يصبحون مجرد سكان عابرين في مكان لا يشعرون بأي انتماء إليه، فيما تتمتع تلك الشرائح المحدودة وحدها بالسلطة والمميزات، في الوقت الذي يتمثل فيه نصيبُ الآخرين بتلك العواقب الوخيمة التي تنتج عن التغييب المقصود الذي يتعرضون له، وحرمان أوطانهم من القوة التي يمكن أن تستمدها من شعورهم بالشراكة في المسؤولية عنه.

ولم تتحدث البيانات العربية عن استخدام القوى الكبرى البلادَ العربية أدوات منفِّذة في الصراع بين تلك القوى، طوال أكثر من خمسين سنة. وقد نتج ذلك عن قيام تلك الشرائح المحدودة، في غياب رقابة الشعب العربي، بِرَهْن هذا الوطن الكبير لأوليات هذه القوى، وتقديم كثير من الخدمات المجانية لها. وكانت نتائج ذلك الاستقطاب الذي لم تستأمر فيه الشعوب العربية احترابا داخليا عنيفا طويلا مهد السبيل لاستقواء إسرائيل وإخفاق مشاريع التنمية وانتكاس النهضة ووأد التوجهات الديموقراطية: وهو ما مهد السبيل لأن تستهتر القوى الكبرى بهذه الشعوب التي لم يعرف لها المتصدرون لقيادتها قدرا.

ولم يشر أكثر هذه البيانات الى ما كانت الولايات المتحدة تفعله طوال عقود في تجنيدها الإسلام سلاحا في حربها ضد من يناوئها. لقد استخدمت الولايات المتحدة الإسلام والمسلمين، برضا، سلاحا في حربها ضد المعسكر الشرقي، وكانت هي السبب الأول في نشوء كثير من المجموعات الإسلامية المتطرفة التي عملت منذ زمن طويل والى عام 2000، أدوات لتنفيذ سياسات الولايات المتحدة ضد مناوئيها تحت كل سماء.

كما سكتت هذه البيانات عن تحويل بعض الفئات من المسلمين الإسلامَ، من دين سام لتهذيب النفوس الى مبادئ آيديولوجية سياسية متطرفة لمحاربة المسلمين قبل غيرهم.

لهذا كله، فبيانات المثقفين العرب ضد السياسة الأمريكية تماثل في حقيقتها بيان الأمريكيين الستين. ذلك أن هذا البيان يقوم على إيجاد المسوغات الأخلاقية لحرب الولايات المتحدة على من تتهمهم بالإرهاب. والدافع وراء ذلك هو الشعور الوطني الشوفيني الذي أعمى موقعيه عن رؤية الأمور من الزاوية التي ينظر منها ضحايا الهجوم الأمريكي، وعن رؤية الأسباب العميقة التي كانت وراء نشوء هذا العداء والكره لسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ أجيال.

فقد اكتفت البيانات العربية بتوجيه نقدها للسياسات الأمريكية متعامية عن النقد الذي يجب أن توجهه أولاً الى جذور المشكلات التي تجثم على صدور المواطنين العرب منذ أجيال، وتحولهم الى ناقمين على وطنهم وعلى الزعامات المتسلطة عليه، وعلى كل من سمح باستمرار تحكُّم الشرائح السياسية المحدودة في التلاعب بمصير هذا الوطن الكبير.

ومن هنا فهذه البيانات شوفينية من حيث المنطلق: ذلك أنها ترى عيوب الآخرين، في الوقت الذي تكاد تبرئ مجتمعاتها من أي احتمال، لكون بعض أسباب ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001، تعود الى ما كان يحدث طوال عقود في هذه المجتمعات.

لقد كان حريًّا بالمثقفين العرب، إن كانوا يقصدون التماهي مع أولئك المثقفين الأمريكيين الأحرار، الذين يشعرون بأنهم شركاء في المسؤولية عما تقوم به الإدارة السياسية لبلادهم ضد العالم، أن يدينوا في بياناتهم، السياسات العربية التي سمحت طوال عقود بإضعاف هذه الأمة عن طريق تجريدها من إنسانيتها وسلب حقوقها ومعاملتها بصورة قطيع لا يستشار ولا يستأمر. وأن توجه نقدها الى مجتمعاتها التي سمحت بتشويه الإسلام وإباحته لكل صاحب هوى مما نتج عنه تشويه الثقافة العربية الإسلامية بصفة عامة.

وقد أدت هذه العوامل كلها الى إضعاف هذه الأمة على الرغم من تمتعها بمصادر للقوة لا حد لها. لقد كانت حصيلة هذا الضعف، الذي نبع من أسباب داخلية في المقام الأول، تمهيد السبيل للقوى الأجنبية، القريبة منها والبعيدة، لكي تستضعف هذه الأمة وتستبيحها.

ويجب ألا يُفهم من كلامي هذا أنني أبرئ الولايات المتحدة من المسؤولية: فما أعنيه هو وجوب الاستهداء بقوله صلى الله عليه وسلم: «الكيِّس من دان نفسَه». إننا يجب أن نعترف بأن ما أدى الى هوان هذه الأمة على نفسها وعلى الآخرين أسبابٌ داخلية في المقام الأول، لذلك كان ينبغي على البيانات العربية أن تكشف هذه العيوب وتطالب بمعالجة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء هذه المصائب التي يتبع بعضها بعضا طوال العقود الماضية. وعند ذلك وحده ترتقي هذه البيانات الى المستوى الفكري المبدئي الذي جعل من الممكن صدور بيانات المواطنين الشرفاء ضد السياسة التي تنتهجها بلادهم ضد العالم.