أمريكا والنظام الدولي

TT

إذا صح اتخاذ الاقتصاد وأسواق الطاقة مقياسا تقاس به حالات الحرب والسلام، صح اتخاذ انخفاض النفط ـ بعد خطاب الرئيس الامريكي جورج بوش في الأمم المتحدة اول امس ـ : مؤشرا الى ان هذا الخطاب ليس (خطاب حرب) وشيكة. فهل هذا منزع حسن؟.. نعم.. فتراجع نذر الحرب، ولو بنسبة ما، شيء مشجع.. وإن كان من الاعتساف والاغراق في سوء التقدير: تضخيم هذا الاحتمال تضخيما يضعف الاحتمالات الاخرى المضادة. فقد يكون التراجع عن مباشرة حرب وشيكة: مراعاة او احتواء لمعارضات واسعة: داخلية وخارجية.. ثم انه لا ينبغي إضعاف الاحتمالات الاخرى باطلاق، لان خطط ضرب العراق معجونة او مرتبطة باستراتيجيات موازية او بعدية تستهدف ـ كما يقال ـ: تغييرات او تعديلات في الخرائط المعهودة للمنطقة.. وهناك في واشنطن من يدفع في هذا الاتجاه: خدمة للاستراتيجية الصهيونية، كما يقول الزعيم السياسي الامريكي (ليندون لاروش).. وهذا نص عبارته: «ان هناك حاليا، دليلاً راسخاً بان الحملة المتواصلة لاقناع الرئيس جورج دبليو بوش بشن حرب على العراق ما هي إلا سياسة اسرائيلية تبلورت عام 1996 حيث يتم الآن خداع بوش بها من قبل مجموعة من العملاء الاسرائيليين داخل الحكومة الامريكية».

2 ـ كان من المتوقع ـ استنادا الى التقاليد الامريكيةـ : في العقلانية، والنظرة الواقعية واستصحاب معيار المنفعة، واتخاذ الاحداث كمدخل للتجدد وتعديل الاتجاه.. كان من المتوقع ـ بناء على هذاـ: ان يكون الرئيس الامريكي (قناصاً) ماهرا ـ وهو يخطب في الامم المتحدة ـ يقتنص مناخ التعاطف العالمي المتجدد مع الأمة الامريكية بمناسبة مرور عام على احداث 11 سبتمبر 2001 التي اصابت الامريكيين بمصيبة ندر مثلها في تاريخهم كله.. يقتنص فرصة التعاطف العالمي هذه ويوظفها في (تجديد ثقة العالم بالولايات المتحدة الامريكية). فغاشُّ لامريكا ـ سواء كان من بنيها أو من غيرهم ـ من يكذب ويقول: ان الثقة بأمريكا لم تهتز، ولم تتآكل. ومعروفة هي عوامل الاهتزاز والتآكل. ومن بين هذه العوامل: الاضطراب الشديد في ادارة الحرب على الارهاب.. والجموح الحاد الى التفرد في التعامل مع الشؤون الدولية.. والتزام النظرة الصهيونية تجاه الصراع العربي الصهيوني.. والنفوذ الصهيوني المتزايد في الادارة: تخطيطا وتنفيذا.

كان الخطاب الامريكي الرسمي ـ في ظل التعاطف العالمي مع الامة الامريكية ـ فرصة واسعة ونادرة وحيوية لتجديد ثقة العالم بأمريكا: مبادئها. وتقاليدها. وسياستها. ومسؤوليتها العالمية... فهل استثمرت هذه الفرصة بمهارة، ونفعية، وحسن توقيت؟

3 ـ في خطاب الرئيس بوش: نبرة واضحة ـ ربما جديدة أيضاً ـ عن الامم المتحدة. وقد ظهرت هذه النبرة في القول بأن الولايات المتحدة مؤسس رئيس لهذه المنظمة الدولية، وان على هذه المنظمة الدولية ان تضطلع بدورها العالمي، وان امريكا عادت الى (اليونسكو).

فهل عادت امريكا الى (الامم المتحدة): عودة المؤمن بها، المقتنع بدورها، الخاضع لميثاقها ومبادئها؟

يسرنا ـ ويسر غيرنا ـ: ان تجدد الولايات المتحدة التزامها بالامم المتحدة، والقانون الدولي. فهي دولة كبيرة ذات تأثير عميق في شؤون العالم. وبوزنها هذا، تنشر فوضى عالمية ضاربة اذا هي (مرقت) عن ضوابط القانون الدولي، او عدت نفسها فوق الامم المتحدة، او حاولت ان تجعل الدول الاعضاء في الامم المتحدة مجرد (موقّعين) على القرار الامريكي. ولذلك سوابق. فالاستهتار بالقانون الدولي، قاد الى الحرب العالمية الاولى.. وتجاوز عصبة الامم ادى الى الحرب العالمية الثانية.. وفي السياق ملمح لا بد ان ينجلي وهو: ان الفوضى العالمية هي مطلب الارهابيين ومناهم وساحتهم المفضلة.

نعم.. حسن تجديد الالتزام بالمؤسسات الدولية، وبما قامت عليه من مبادئ ومواثيق وقوانين. لكن هذا التوكيد النظري لا يغني ـ على وجاهته ـ عن (المواقف العملية): الواضحة، والجادة، والمستمرة. وأول هذه المواقف العملية هو: الامتناع عن (التدخل في سيادات الدول وشؤونها الداخلية).. فهذا الامتناع يترجم (الايمان العملي) ببند عظيم من بنود ميثاق الامم المتحدة ينص على تساوي الدول في السيادة، وعلى عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى.. وهذا النص (التقدمي) حصلت عليه البشرية منذ ما يقرب من ستين عاما. وبديه: انه ليس من متابعة التقدم: الانتكاس الى الوراء.. الى عهود انتقاص سيادة الدول بفعل الاستبداد الاستعماري الذي كان الشعب الامريكي من اوائل الشعوب التي قاومته ببسالة: حفاظا على سيادته واستقلاله.

ومن (الالتزام) العملي بالامم المتحدة ومؤسساتها المختلفة: (المساواة) الحقيقية في (الخضوع) لقرارات مجلس الامن.. نحن لا نعفي العراق من تبعة التجاوزات في هذا المجال. ولقد كَرَرْنا عليه بالنقد الصارم غير مرة. بيد ان الكيان الذي (تخصص) في الاستهتار بقرارات مجلس الامن، وبالاستعلاء عليها، وبالتفلت الدائم منها، هو الكيان الصهيوني او اسرائيل.. فمنذ قيامه، لم ينفذ هذا الكيان،ـ ولو بالغلط!! ـ قرارا من قرارات مجلس الأمن، ولو مرة واحدة!

هذا (مروق) اسرائيلي موثق من القانون الدولي، ومن رمزه الأممي (مجلس الامن).

ولقد ساندت الولايات المتحدة، ولا تزال تساند هذا المروق الصهيوني.. ولا يستطيع عاقل ـ امريكي أو غيره ـ: ان يقول: إن هذه المساندة دليل على الالتزام العملي بشرعية مجلس الامن وقراراته.. وليس يغيب عن ذي عقل ووعي: ان وكالة الطاقة الذرية هي وكالة دولية من وظائفها وصلاحياتها: مراقبة التسلح النووي ومتابعة تطوراته.. ولقد ثبت ان لدى اسرائيل سلاحا نووياً، ولكنها لا تسمح لهذه الوكالة بتفقد مفاعلاتها النووية ومراقبتها، وهي بهذا السلوك تجعل نفسها (فوق القانون الدولي). ومن ثم تهدد أمن منطقة الشرق الأوسط تهديدا جدياً. ومع ذلك، لم تفعل الولايات المتحدة شيئا تجاه هذا التهديد النووي الاسرائيلي: وتجاه الانتهاك للمواثيق الدولية.. ومن المتعذر ـ عقلا وخلقا ـ: حسبان هذا الموقف الامريكي: التزاما عمليا بميثاق الامم المتحدة او القانون الدولي.

وليس من (المسؤولية الدولية): نشر معلومات غير صحيحة، ولا سيما اذا تعلقت هذه المعلومات بأمن الدول وسلامتها وسيادتها، وانبنت عليها مشروعات حروب!!

بثت معلومات امريكية ـ صادرة من مستويات عليا ـ تقول: ان العراق يوشك ان يمتلك سلاحا نوويا، وآخر هذه المعلومات، ما ورد في خطاب الرئيس جورج بوش اول امس 12/9/2002.. وقد سارعت وكالة الطاقة الذرية الى النفي الحاسم لهذه المعلومات. وقالت بصراحة: «ان المعلومات التي تدعي ان العراق طور ترتيبات لانتاج سلاح نووي هي معلومات خاطئة بالكلية». وظهر من كلام الوكالة: تذمرها الشديد من التلميح الى اسمها كغطاء للمعلومات الغلط.

ولعل مما يشبع هذه النقطة ـ نقطة المسؤولية والامانة في نشر المعلومات على نطاق دولي ـ: اجراء مقارنة بين تصريحين امريكيين: احدهما سياسي للرئيس الامريكي، والآخر تخصصي أو فني لـ (سكوت ريتر) كبير مفتشي اللجنة الخاصة المكلفة نزع اسلحة الدمار الشامل العراقية، الذي مكث في القيام بهذه المهمة مدة 8 سنوات: من 1991 الى 1998.

اتهم بوش العراق بالمراوغة والخداع المطلقين، الامر الذي ادى الى تعطيل مهام فرق التفتيش الدولية. ولقد اطال الحديث في هذا الموضوع إطالة تركت انطباعا بان فرق التفتيش فشلت فشلا تاما، فهل هذه المعلومة صحيحة؟.. لنستمع الى الرجل الامريكي الخبير الميداني المختص سكوت ريتر. فقد قال: «ان نزع اسلحة العراق تم بنسبة 98%، وان هذا البلد لا يملك الامكانات لاعادة تسليح نفسه لتهديد جيرانه، ولا يهدد الولايات المتحدة».. ويبدو ان هذه معلومات تعرفها شخصيات سياسية مرموقة في امريكا. فقد قال الرئيس الامريكي الاسبق (جيمي كارتر).. «تم التأكيد بشكل شديد من قبل حلفائنا الخارجيين، ومن قبل زعماء الادارات السابقة، واولئك المقتدرين الذين تولوا السلطة، تم التوكيد على ان بغداد لا تشكل خطرا على الولايات المتحدة».

ما معنى هذا الكلام؟.. هل معناه: «ان جانب العراق مأمون باطلاق؟» لا. فمن دعا الناس الى الشك فيه: شكوا فيه بالحق وبالباطل، ولو ألقى معاذيره. وانما معنى الكلام: ان المعلومة التي تتعلق بشأن دولي كهذا يجب ان يتسم نشرها بالمسؤولية والامانة والدقة والنزاهة. نعم ليس معنى الكلام: تبرئة العراق.. وإلا فان لنا تصورا في هذه القضية، نحسبه ممكنا ومجديا وهو:

1 ـ تكوين فريق دولي للتفتيش عن اسلحة الدمار الشامل العراقية. على ان ينتظم هذا الفريق تمثيلا متوازنا للاعضاء الدائمين في مجلس الامن. فالفريق بصفته هذه ضمانة دولية حاسمة ضد الاهواء: العراقية والامريكية معا.

2 ـ تحديد مهمة هذا الفريق.. بدقة لا تسمح بالاجتهادات السياسية المغرضة.

3 ـ على العراق ان يمكن هذا الفريق من ممارسة مهامه دون عوائق، ولا تسويف، ولا زوغان.

4 ـ تحديد مدى زمني ـ عام مثلا ـ لكي يتم الفريق عمله.

5 ـ تعلن نتائج عمل الفريق في وثيقة رسمية تودع في ملفات مجلس الامن، وتذيعها الامانة العامة للامم المتحدة على اوسع نطاق.

6 ـ يوصي الفريق ـ اذا نجح في مهمته ـ برفع العقوبات عن العراق.

افعلوا هذا، وانقذوا البشرية من فوضى تتكاثر نذرها، حتى لا يكتب التاريخ: كان في اوائل القرن العشرين 6 آلاف مليون من البشر يقودهم قادة أقزام.