من اغتيال الملوك إلى الإرهاب الجماعي (2 من 2)

TT

تؤكد قصة زعيم التنظيم الذي نفذ العملية الارهابية في 11 سبتمبر وسيرة حياته ايضا الاكتفاء الذاتي لهذا التنظيم واستقلاله الذاتي.

فقد ولد اسامة بن محمد بن لادن في 28 يونيو عام 1957 في المملكة العربية السعودية، وكان الابن السابع عشر من مجموع 52 طفلا انجبهم رجل الاعمال الناجح الذي اسس في عام 1931 شركة «سعودي بن لادن جروب». وتحولت الشركة تدريجيا الى مؤسسة متفرعة استولت على مواقع وطيدة في صناعة الكيماويات والاعمال المصرفية والاتصالات السلكية واللاسلكية وبواسطة الاقمار الصناعية. وكان لدى هذه المؤسسة في مطلع القرن الحادي والعشرين اكثر من 60 فرعا وشركة تابعة في آسيا واوروبا والولايات المتحدة الامريكية.

وورث الابن الوحيد لزوجة محمد العاشرة بعد وفاة والده مبلغ 250 مليون دولار. وفي غضون عشرين عاما زاد اسامة هذا المبلغ مثنى وثلاثا على اقل تقدير، بالاضافة الى حصوله على الفوائد الكبيرة التي كان يتلقاها بموجب العادات السعودية الراسخة في الصفقات الانشائية للاسرة. ولذا كانت الامكانيات المادية لاسامة بن لادن كافية من اجل تأسيس التنظيم وتجهيزه وتشغيله.

وتبدو كمفارقة مشاركة الاجهزة الخاصة الامريكية في قيام ونشوء بن لادن وتنظيمه.

وتتوفر المسوغات للاعتقاد بأنها بدأت التعامل مع بن لادن حينما كان يطلب العلم في جامعة الملك عبد العزيز في جدة. على اي حال فانه كان على اتصال بوكالة المخابرات المركزية حين انخرط بعد انتهاء الدراسة في محاربة الجنود الروس في افغانستان. ولا تكمن المسألة فقط في مشاركته في العمليات العسكرية. فقد اتسم بقيمة اكبر بالنسبة الى من كان يسعى الى ازدياد تورط الاتحاد السوفيتي في افغانستان. نشاط بن لادن في تأسيس «مكتب الخدمات» الذي افتتح مراكز تطوع في مختلف البلدان من اجل رفد صفوف المقاتلين الذين كانوا يحاربون القوات السوفيتية في افغانستان. وافتتح أحد هذه المراكز في الولايات المتحدة. وقام المكتب بتجنيد وارسال آلاف المتطوعين الى افغانستان، وبافتتاح معسكرات تدريب عسكري في اراضي افغانستان وباكستان. وتفيد بعض المصادر بان بن لادن كان صاحب فكرة تسليح المجاهدين الافغان بصواريخ «ستينجر» حيث بدأت الولايات المتحدة بارسالها الى افغانستان واستخدمت ضد الطائرات والمروحيات السوفيتية.

وعموما فقد اكتشفته الاجهزة الخاصة الامريكية وتعاونت معه بشكل وثيق، مسترشدة في ذلك الوقت بمبدأ «عدو عدوي هو صديقي» وفي بعض الحالات كان الاتحاد السوفيتي يسترشد بهذا المبدأ ايضا.

لكن تبين ان التنظيمات العسكرية التي تأسست في البلدان الاخرى او حظيت بالدعم فحسب في فترة «الحرب الباردة» من اجل استخدامها في المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كانت غير مستقرة في غالبية الحالات وبعد انتهاء «الحرب الباردة» اصبحت خارج السيطرة. وهذا ما حدث لتنظيم القاعدة الذي اسسه بن لادن في عام 1987. وفي البداية اقتصر نشاطه على داخل حدود افغانستان، ولكن بعد انسحاب القوات السوفيتية من هناك في عام 1987 تحولت «القاعدة» الى منظمة معادية لامريكا. وأخذ ينضم اليها ليس العرب فقط، بل المسلمون من اتباع مذهب السنة عموما. وفي فبراير عام 1998 دعت «القاعدة» في احد بياناتها جميع المسلمين الى قتل المواطنين الامريكيين في كل مكان ـ من عسكريين ومدنيين ـ وحلفائهم.

ان هذا الانعطاف بمقدار 180 درجة هو صفة مميزة ليس بالنسبة الى «القاعدة» فقط. فلم تنج من ذلك بعض الجماعات الاخرى المدرجة الآن في كشف المنظمات الارهابية. فمثلا، شكلت المخابرات الاسرائيلية «موساد» في الضفة الغربية المحتلة في حينه حركة «حماس» الفلسطينية بهدف مقابلتها بـ «جبهة تحرير فلسطين» ولكن سرعان ما خرجت «حماس» من الوصاية الاسرائيلية وغيرت اتجاهها كليا.

لقد اكتسبت «القاعدة» بسرعة خبرة تنفيذ العمليات الارهابية. وتوسعت رقعة مناطق الارهاب فشملت اليمن والصومال والولايات المتحدة (التفجير في المركز التجاري). وفي اغسطس عام 1998 وقعت بشكل متزامن انفجارات في سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي عاصمة كينيا وفي دار السلام عاصمة تنزانيا، مما اسفر عن مقتل اكثر من مائتي شخص وجرح حوالي اربعة آلاف شخص. ورحب بن لادن بهذه العمليات جهارا، لكنه لم يعترف صراحة في اي مكان بأن «القاعدة» قامت بتدبيرها. علما ان بن لادن وتنظيمه يختلفان في هذا عن البقية الذين يعلنون فور وقوع العملية الارهابية مسؤوليتهم عنها، لاظهار انهم اقوياء «يقدرون على عمل اي شيء». وباعتقادي ان الاكتفاء الذاتي لتنظيم «القاعدة» وعدم اهتمامه بمصادر التمويل «الخارجية» قد ساعدا لحد كبير على ابداء مثل «ضبط النفس» هذا في مجال الاعلان والدعاية.

علما ان الاحداث نفسها كانت تدفع «القاعدة» الى الاكتفاء الذاتي والاستقلال الذاتي، الكثيرون قائلين ان بن لادن له ارتباطات بالمملكة العربية السعودية، حقا، لقد جرى في فترة وجود القوات السوفيتية في افغانستان، تنسيق نشاطه مع الرياض، ولكن بعد تحول بن لادن الى محاربة الولايات المتحدة تقلص الى ادنى حد مجال تطابق مصالحه مع النظام السعودي. زد على ذلك فإن النظام في المملكة العربية السعودية الذي كان يساوره القلق من رد الفعل المحتمل من جانب الولايات المتحدة عمد الى طرد بن لادن من البلاد (كان يومئذ قد عاد اليها في اعقاب انسحاب القوات السوفيتية من افغانستان). واضطر بن لادن الى ان يغادر السودان ايضا والذي انتقل اليه من المملكة العربية السعودية، لان الخرطوم لم ترغب ايضا في التعرض الى المشاكل بسببه.

ومن الواضح بانه لم يكن بالمستطاع قيام علاقات ثقة بين بن لادن والعراق. فبعد احتلال القوات العراقية للكويت عرض بن لادن وليس اي أحد غيره على القيادة السعودية في عام 1990 ان يرسل لمحاربة صدام حسين الالاف من رجاله الذين فقدوا «العمل» نتيجة انسحاب القوات السوفيتية من افغانستان.

كما ان ايران ما كان يمكن ان تغدو شريكة لاسامة بن لادن لان زعيم «القاعدة» كان يؤيد جماعة طالبان السنية في قتالها ضد التحالف الشمالي ذي الاغلبية الشيعية. علما ان ايران الشيعية كانت تتخذ موقف المعارضة المتشددة وتحارب تنظيم «القاعدة».

وكانت جماعة «طالبان» الوحيدة التي استطاع بن لادن اقامة العلاقات معها. لكن «طالبان» حركة اكثر مما هي نظام دولة متين البنيان. وزوج بن لادن ابنته الكبرى من الشيخ محمد عمر زعيم «طالبان»، واظهر جهارا علامات التقارب الاخرى مع رجال «طالبان»، بيد انه بقي في جوهر الامر قوة مستقلة ذاتيا، ورابط لحد بدء العملية الامريكية في افغانستان في قلعته الحصينة ـ وهي مجموعة من الكهوف والممرات تحت الارض التي حفرت في ايام الحرب مع الوحدات العسكرية السوفيتية في افغانستان، كما كانت تربطه برجال «طالبان» العمليات المشتركة لتهريب المخدرات التي ضاعفت الامكانيات المالية لتنظيم «القاعدة».

اما بصدد «طالبان» فإنها حركة اسلامية متطرفة استولت على السلطة في كابل وكانت تصبو للسيطرة على البلاد كلها، وقد تأسست بمساعدة الولايات المتحدة ايضا. وانا التقيت حين كنت وزيرا للخارجية رئيس الوزراء الباكستاني بوتو الذي لم يخف ان الاستخبارات العسكرية الباكستانية عملت بمشاركة وكالة المخابرات المركزية على تأسيس هذه الحركة.

علما ان الاستقلالية الذاتية لم تعرقل فقط، بل ساعدت بن لادن و«القاعدة» على توسيع مناطق نفوذهما. وطبقا للمعطيات المتوفرة فإن بن لادن قدم مساعدة كبيرة الى الانفصاليين الالبان في كوسوفو، وبالاخص الى جيش تحرير كوسوفو المعادي للصرب، والذي ادرجه الامريكيون ايضا في البداية عن حق في كشف المنظمات الارهابية، ولكنهم صاروا يدعمونه لاهداف جيوبوليتيكية. وكان الاساس الفكري لدعم بن لادن هذا يكمن في سعيه الى اقامة دولة اسلامية ذات نزعة متطرفة في وسط اوروبا، تضم البانيا وكوسوفو والسنجق وقسما من البوسنة وقسما من مقدونيا. واتسم بأهمية كبيرة في هذا المجال ان المسار البلقاني كان اهم معبر لتهريب المخدرات من افغانستان الى اوروبا الغربية.

وتدل معطيات كثيرة على وجود علاقات بين بلدان وتنظيم «القاعدة» والمقاتلين الشيشان، ووجود العنصر العربي ـ وليس وحده ـ، حيث انهم كانوا يتلقون التدريب العسكري في افغانستان في معسكرات بن لادن وبأمواله.

الآفاق: اندماج الإرهاب

وسلاح الدمار الشامل

وهكذا تنبثق مسوغات أكيدة تدعو الى الاعتقاد بأنه ظهرت على الساحة العالمية منظمات مكتفية ذاتيا ومستقلة ذاتيا، تبشر بالارهاب الجماعي بصفته وسيلة لتحقيق اهدافها. ونحن نتحدث الآن فقط عن واحدة من هذه المنظمات هي «القاعدة»، لكن اين الضمانات بأنها ستبقى بصفتها الظاهرة الوحيدة؟ لا سيما ان السمة المميزة لمثل هذه المنظمات هي عدم ابداء روح الجرأة وعموما عدم الرغبة في الاعلان عن نفسها لدى تنفيذ العمليات الارهابية. الى جانب ذلك فإنه يوضع في المرتبة الاولى توسيع نطاق الارهاب وزيادة عدد ضحاياه.

حين كانت الدول هي «اللاعب» الوحيد على الساحة الدولية، كان بالمستطاع التنبؤ مسبقا ولحد كبير بمسار الاحداث، ولربما ان هذا الشيء الاهم ويمكن التحكم به بقدر اكبر. لقد كان الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، اللذان توليا بعد الحرب العالمية الثانية قيادة نظامين آيديولوجيين مختلفين ويمتلكان قدرة صاروخية نووية قادرة على التدمير المتبادل، يلجم احدهما الآخر، كما ان الدول المنحازة الى الدولتين الاعظم تقع تحت سيطرتهما. اما الدول التي لم تدخل في هذه المنظومة، فإنها كانت ايضا تبدي ضبط النفس جدا، ولا سيما حيال احتمال خروج النزاعات الى ما وراء الاطار الاقليمي. اما الارهاب فلم يعد يشكل خطرا دوليا شديدا بعد ان تقلص كثيرا دعم الدولة له.

كيف نضمن أمن اقوى

الدول عسكريا وسكانها؟

ان الوضع يتفاقم لان الطريق لامتلاك السلاح النووي والاصناف الاخرى لسلاح الدمار الشامل لم يعد مسدودا امام المنظمات الارهابية المستقلة ذاتيا.

علما ان الوضع صار في بداية القرن الحادي والعشرين يساعد اكثر على اندماج الارهاب مع سلاح الدمار الشامل.

فأولاً، ان الانفصال عن دوائر الدولة و«الخروج الى عرض البحر بصورة ذاتية» يعطي المنظمات الارهابية قدرة كبيرة على المناورة. وثانيا، تزداد امكانياتها في تحقيق الاكتفاء الذاتي المالي. وثالثا، ان عملية العولمة تساعد على اندماج الارهاب مع سلاح الدمار الشامل ـ ويجب علينا ان نواجه هذه الحقيقة ـ لانها وضعت سيول المعلومات تحت تصرف الجميع، بالالتفاف على جميع القيود المحتملة. ورابعا، ان تطور الاسلحة يقود الى صنع اصناف سلاح نووي صغير الحجم، ويسهل انتاج السلاح الجرثومي والكيماوي، مما يجعل سلاح الدمار الشامل تحت متناول يد الارهابيين بيسر أكبر.

ويحتل مرتبة متقدمة في هذا المجال السلاح الاشعاعي، ولو ان الحديث عنه يدور بقدر اقل. فقد ورد بشكل خاطف نبأ مفاده ان احد افراد «القاعدة» الذي جرى استجوابه اشار الى احتمال ان يستخدم اعضاء منظمته الارهابية النفايات النووية من اجل نشرها في مناطق «العدو».

وفي نهاية المطاف فإن الارهاب الدولي يكتسب صفة خطرة على الاخص في ظروف انتشار السلاح النووي، وازدياد عدد البلدان التي تمتلكه، علما ان بعضها متورط في النزاعات الاقليمية. فمثلا، حين بدأت العملية العسكرية الامريكية في افغانستان بدأت في باكستان المجاورة حملة واسعة النطاق لدعم «طالبان» وتدفقت مئات آلاف الناس الى شوارع العاصمة الباكستانية اسلام اباد وكراتشي والمدن الاخرى مطالبة باقصاء «النظام الموالي للامريكان» عن السلطة. واثار القلق ايضا ان النظام اقصى في الوقت نفسه عن مناصبهم الضباط غير الموثوق بولائهم للسلطة. وأعتقد ان المسوغات كانت موجودة لكي يخشى الكثيرون ان تحصل على السلاح النووي القوى القريبة من جماعة طالبان الافغانية، وبضمن ذلك الجيش، لكن لم تتحقق في هذه المرة المخاوف بهذا الصدد. فماذا سيحدث لاحقا؟

في سبتمبر عام 1996 شاركت بصفتي وزيرا لخارجية روسيا في اجتماع الجمعية العامة لهيئة الامم المتحدة في نيويورك. وجرى هناك استقبال الرئيس بيل كلينتون. ولدى الحديث عن الاهمية البالغة لتنسيق افعال الولايات المتحدة وروسيا قال الرئيس بهذا الصدد ـ واعترف بان هذا كان مفاجأة بالنسبة لي ـ ان النزاع بين الهند وباكستان سيكون اخطر مشكلة في ربع القرن المقبل لاحتمال الانزلاق لاحقا الى استخدام السلاح النووي.

ويمكن في نهاية المطاف التعويل على ان لا يقود ظهور السلاح النووي لدى الهند وباكستان الى استخدامه في النزاع الاقليمي ـ فثمة أمل له مبرراته بشأن تفادي هذه المأساة بفضل تبصر الدولتين المشاركتين في النزاع، والجهود الدولية الواسعة، لكن الامر سيختلف في حالة حصول الارهابيين على السلاح النووي.

يجب على المجتمع العالمي ان يستنتج بأنه ينبغي في الظروف الجديدة اعادة النظر في الكثير من الافكار التي كانت سائدة في الماضي وطرائق ضمان الامن ـ الامن الذاتي وأمن الحلفاء، واحلال ودعـــم الاستقرار على الصعيدين الاقليمي والعالمي. وتـــــطرح كمهمة اساسية مسألة مقاومة الارهـــــــاب الدولي بشكل مضمون، والذي تسلح بأشكال وطرائــــــق جديدة. وبغية ان تكون هذه المقاومة فعالة ينبغي تلاحم جميع القوى السليمة في العالم.

فكيف يتم ذلك، وكيف يمكن بلوغ هذا الامر؟ يبدو ان الجواب عن هذا السؤال سيكون أحد الاجوبة الرئيسية في القرن الحادي والعشرين.