الولايات المتحدة والعالم.. خيار الحسم

TT

يذهب الباحث السياسي الفرنسي «الكسندر آدلير» الذي اصدر مؤخرا كتابا هاما حول عالم ما بعد 11 سبتمبر بعنوان «رأيت العالم القديم ينتهي» الى ان العالم دخل منذ سنة العام الاول من القرن الواحد والعشرين، وهي مرحلة جديدة لها قسماتها المغايرة وتوازناتها الاستراتيجية الخاصة.

ويقف ادلير عند ثلاثة مؤشرات، يتعلق أولها بالعالم الاسلامي، وثانيها بالولايات المتحدة الامريكية، وثالثها بالوضع الدولي اجمالا.

وبخصوص العالم الاسلامي، يرى آدلير ان السنة المنصرمة قد عرف فيها هذا العالم من التحولات الجوهرية اكثر مما اثرت فيه سنوات العقد المنصرم المتميزة بمسار اوسلو المتعثر واندلاع الفتنة في الجزائر.

وهكذا تشكل براديغم جديد في العالم الاسلامي قوامه التحالف غير المسبوق بين المحافظين التقليديين والتحديثيين المتغربين، في مواجهة الاصولية والتطرف. ويحاول آدلير تعميم هذا النموذج في ساحات عديدة بدءا بالسعودية، وانتهاء بتركيا. اما الولايات المتحدة الامريكية فقد عرفت لأول مرة في تاريخها مرارة الهزيمة، وبدأ زلزال 11 سبتمبر يترك اثره المكين والثابت في العقليات العميقة.

والظاهرة البارزة الآن، هي تزايد العزلة الامريكية على الساحة الدولية بعد انحسار موجة التعاطف العارم مع الولايات المتحدة مباشرة بعد الحدث.

ويرى آدلير ان التحالف الدولي ضد الارهاب اصبح هشا، ولم يعد بامكانه تأمين الوقوف الآلي مع الوحش الامريكي المنفلت من كل قيود وضوابط.

ويشير الكاتب هنا الى تنامي نزعة الانزياح عن الموقف الامريكي لدى حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، خصوصا في اوروبا، فضلا عن الحليف الروسي الجديد والصين.

وتطغى النزعة العدائية لامريكا راهنا على انتخابات المانيا وتركيا والبرازيل، ولم يعد للولايات المتحدة من حلفاء حقيقيين على الساحة الدولية سوى كندا واستراليا واسرائيل. بيد ان آدلير يذهب الى ان العزلة الامريكية مؤقتة، وستعود الولايات المتحدة الى مركز النظام الدولي لكن بقواعد لعبة جديدة، وهيمنة أقل، وستعتمد في رهانها الجديد على تحالف غير مسبوق مع روسيا بعد خروجها من حروبها القوقازية، وفي الساحة الاسلامية ستعتمد على تحالف مكين مع نظام ايراني جديد موال لها.

اما الوضع الدولي العام، فسيشهد انبثاق نمط جديد من التعددية القطبية بدأت معالمه تبرز حسب آدلير، ومنها بروز قوة دولية متنامية في امريكا الجنوبية تتمحور حول البرازيل والارجنتين، وتنامي دور الصين في الساحة الدولية، وربما قيام تكتل اوروبي فاعل اذا تمكنت باريس ولندن وبرلين من الوصول لصياغة مشتركة للمشروع الاوروبي.

تلك احدى الاطروحات التي ظهرت في الآونة الاخيرة في الكتابات الغربية التي احتفلت على نطاق واسع بذكرى الزلزال الامريكي، بسيل وافر من التحليلات والرؤى الاستشرافية.

وما يهمنا في هذه الاطروحة المنسجمة هو موقع الدائرة العربية الاسلامية في التحولات الاستراتيجية الجديدة.

وان كنا لا نوافق آدلير (المعروف بميوله الصهيونية كما هو جلي في كتابه الذي اشرنا اليه) حول آثار 11 سبتمبر الجذرية في الساحة الدولية، الا اننا نقر بكثافة الدلالة الرمزية للحدث في انماط الوعي والمتخيل.

فالزلزال الامريكي من هذا المنظور فرض على اصعد مختلفة حسم العديد من الاشكالات والرهانات التي كانت قائمة، كامنة، ومن ابرز هذه الاشكالات الدور الامريكي في الساحة الدولية، الذي كان يتأرجح بين عدة سجالات: الاتجاه الى ممارسة الهيمنة الاحادية بالمنطق الامبراطوري التقليدي، والميل الى تفعيل اطار الشرعية الدولية من خلال التحكم في المظلة الاممية، واستغلال الريادة الاقتصادية والموقع المحوري في النظام الاقتصادي الدولي لجني مكاسب جيوسياسية، مع النكوص احيانا للخطاب المسياني والرسالي التقليدي الذي ارتبط بالحلم الامريكي. وقد اصبح من الواضح اليوم ان الدوائر الاستراتيجية الامريكية مرغمة على حسم خيارها الاستراتيجي في اي من هذه الاتجاهات، حتى ولو كان هذا الحسم عصيا، صعب المنال.

واذا كان الجناح المحافظ المتشدد في ادارة الرئيس بوش يميل الى حسم هذا الخيار في اتجاه الجمع بين المنطق الامبراطوري التقليدي والنزعة الرسالية الاخلاقوية (وهو موقف الرئيس بوش نفسه كما يفهم من خطابه الشهير حول حالة الاتحاد الذي اختزل فيه العالم الى دار الشر ودار الخير) فإن الجناح الموسوم بالاعتدال والواقعية في هذه الادارة، يدرك مخاطر هذا النزوع على مكانة وهيبة الولايات المتحدة ويرى فيه منشأ النزعة العدائية للولايات المتحدة، حتى في الساحة الغربية، وهي النزعة التي حللها المفكر الامريكي المعروف فوكوياما في مقالته الهامة المنشورة بصحيفة «الشرق الأوسط» (02/9/12).

وتطرح اشكالية الحسم بالحدة نفسها في الساحة الاوروبية المترددة بين مشروع التفعيل السياسي والاستراتيجي لهيكل الاتحاد الذي اضحى واقعا قائما مما يطرحه هذا الخيار من تحلل من عقد التحالف المكين مع الولايات المتحدة الذي ضمن امن اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أو ممارسة دور استراتيجي اقليمي متزايد من داخل المؤسسات المشتركة مثل حلف الناتو أو عبر المرجعية الدولية (هيئة الامم المتحدة).

وفي السياق ذاته، تتحدد اشكالية التوجه الاستراتيجي الروسي بعد انحسار النظام الشيوعي. ففي الوقت الذي تميل روسيا الى الاضطلاع بدور اقليمي ودولي متزايد يصطدم ضرورة بالمواقف الامريكية، تنتهي في الغالب الى عقد صفقات محسوبة مع الولايات المتحدة لتسيير قراراتها الدولية في مقابل مكاسب اقتصادية. بيد ان هذا التأرجح بين الميل لتأدية دور قوة التوازن الدولي والتقرب كحليف اقليمي من الدرجة الاولى غدا ممتنعا، مما يطرح على الادارة الروسية اسئلة جوهرية يتعين حسمها.

ولعل السؤال الاكثر حدة يتصل بمجالنا العربي ـ الاسلامي، الذي تربطه علاقات اشكالية خاصة بالفضاء الامريكي، نادرا ما تطرح للحوار الجدي والمصارحة الجلية، سواء تعلق الامر بالجانب العربي قيادات وقوى سياسية أو بالجانب الامريكي.

ولا شك ان عقد الصمت قد انهار، مما يفسر كثافة واتساع «الحوار العربي ـ الامريكي» الذي دار طيلة السنة الماضية على اعمدة الصحف ومنابر السياسيين، واتسم في الغالب بالحدة والاشارات الموحية الدالة، كما تبين لاحقا.