برد العقوبات وسعير الضربة العسكرية

TT

انبثقت فكرة العقوبات الاقتصادية في التاريخ، منذ ردح طويل من الزمن، يزيد عن الفي عام. وأول حادثة مدونة كانت عام 432 قبل الميلاد، حيث فرض المسؤولون في أثينا عقوبات اقتصادية على تجار دولة ميغارا Megara، بمنعهم من الوصول الى ميناء أثينا وأسواقها.

لم تفلح سياسة فرض العقوبات، بل صعدت الموقف فاشتعلت حرب البيلوبونيسيان peloponnesian War الدموية المديدة، والتي افضت الى اغتيال الديمقراطية اليونانية في مهدها. وهكذا، مثل اثينا تتصرف الولايات المتحدة الامريكية لفرض حصارها الاقتصادي على الامم والبلدان التي تعارض مبادئها وسياستها، وتحتضن الارهاب وتسعى لامتلاك اسلحة الدمار الشامل، من كيميائية ونووية، وتنتهك حقوق الانسان من وجهة نظرها. وكالميغاريين Megarians لا تفضي العقوبات على الدول المستهدفة كالعراق وايران وكوبا الى تغيير في السياسات، بل تطال حروقها شعوب هذه البلدان دون ساستها.

وتشير احصاءات الادارة الامريكية الى ان واشنطن فرضت ضمن سياستها الخارجية 115 مرة عقوبات وحصارات اقتصادية منذ الحرب العالمية الاولى، منها 61 عقوبة منذ عام 1993. وتدعي المؤسسة الوطنية للصناعيين الامريكيين ان 42% من سكان العالم يرزحون تحت وطأة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الامريكية على بلدانهم. وفي عام 1997، اشارت دراسة للمعهد الاقتصادي العالمي الى ان الولايات المتحدة الامريكية حققت في عام 1970، 13% فقط من الاهداف التي نشدتها في فرض عقوباتها من طرف واحد. واستنتجت الدراسة ان هذه العقوبات تكلف الولايات المتحدة الامريكية من 15 الى 19 بليون دولار امريكي سنويا، جراء خسارتها لاسواق التصدير الى البلدان المحاصرة.

ويجادل المدافعون عن نظام العقوبات وفعاليتها ونجاعتها في بعض القضايا كما حصل في حمل ليبيا على تسليم المتهمين الاثنين في تفجير الطائرة الامريكية فوق لوكربي عام 1988، الذي راح ضحيته 270 شخصا الى محكمة العدل الدولية، وكذلك لعبت العقوبات دورا مهما في جعل حكومة الابارتهيد Apartheid في جنوب افريقيا تسمح بانتخابات ديمقراطية، وحاصرت ايضا امريكا وما زالت تحاصر بالتهديد بفرض العقوبات على تصدير روسيا لتقنيات عسكرية الى الهند وايران.

وعلى امواج العولمة بدأت العقوبات ترزح تحت تأثير خسارة الاقتصاد بشكل اكبر، والمتمثل بخسارة اسواق التصدير في الدول التي فرضت عليها العقوبات، وهذا ما حدا بشركات خاصة كشركة بوينغ للطائرات وشركات النفط ومؤسسات حكومية كوزارة الصناعة والتجارة الامريكية، لطرق ابواب الكونغرس والرئيس الامريكي والشكوى من خسارتهم نتيجة لهذه العقوبات. وقد علق جون موللر (استاذ السياسة في جامعة روشستر) قائلا: «لقد اضحت العقوبات طريقة رخيصة لممارسة السياسة الخارجية باستثناء ان التكاليف تكون باهظة».

ومنذ حرب الخليج وفرض العقوبات على العراق والشعب العراقي الأبي يدفع الثمن غاليا.

ولم تجد العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الامن بموجب القرار رقم 661، والعقوبات الامريكية ايضا في اغسطس عام 1990، نفعا، وبدلا من ان تؤذي النظام آذت الشعب، واثقلت كاهله، وافرغت العقوبات الامل من كأس الشعب حتى وصل عدد ارواح الاطفال تحت سن الخامسة، والتي تزهق نتيجة النقص في الغذاء والامراض الناجمة عن سوء التغذية، الى 5357 طفلا في كل شهر، بينما ازدادت قصور النظام عددا لتناهز الاربعين، فالعراق الذي يملك كل مقومات النمو والازدهار (من نفط يضعه في المرتبة الثانية على المستوى العالمي من حيث الانتاج والاحتياطي، بالاضافة لكنوزه من بشر وأرض زراعية)، استهلك نفسه ومقدرات بلده في حربين بغيضتين جعلت رياح الذل والبطالة والفقر وسوء التغذية تهب جميعها على ابناء العراق بمن فيهم الاطفال، فباتوا يجلسون كالأيتام على مائدة اتفاقية النفط مقابل الغذاء، ينتظرون فتات الخبز بينما يتاجر سماسرة النظام والتجار من الخارج بقوت الشعب العراقي.

لم يع النظام ان الحروب لا تشن بتسميتها بأم المعارك أو بتمنطق الأفكار التي تلهب صدور المدافعين عن قضايا الامة، وما زال النظام العراقي يخرج أحاجيه بالدفاع عن فلسطين ومقارعة الامبريالية العالمية التي باتت صفعته أقرب اليه من حبل الوريد.

يقول فيلسوف: «تبرر الأعمال بنتائجها»، والأحرى بنظام صدام ان يتمعن بهذه المقولة، وان يؤثر ولو لمرة واحدة، مصلحة شعبه على حبه لكرسيه وللسلطة، وان يتنازل عن السلطة الى سلطة مدنية تزيل شبح الحرب الذي يجثم على المنطقة، وان يجنب المنطقة نزيفا لم يعد يتحمله الجسد العربي. وبدلا من ان تدفع فواتير الحرب من جيوب العرب، فلتخصص للنهوض بهذه المجتمعات التي اضناها الفقر والذل وهي تلهث وراء شعارات فارغة تطنّ بسعير الحروب وتقرع طبولها لتأتي على كل حيويات شعوب المنطقة.

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر غيرت الولايات المتحدة الامريكية من اسلوبها وتشددت في فرض سطوتها في حملتها الكونية على الارهاب، وبات من تسم واشنطن بلده بدمغة الارهاب في شر مستطير، حتى ان الرئيس الامريكي بوش، وامتدادا لسياسة والده، بات يريد الاطاحة بنظام الرئيس صدام حتى ولو تطلب ذلك الضربة العسكرية التي تتداول سيناريوهات اخراجها وراء كواليس الخارجية الامريكية والبنتاغون، وتتغاضى الولايات المتحدة الامريكية في ازدواجية معاييرها في التعامل مع قضايا الشرق الاوسط الملتهبة، عن امتلاك اسرائيل وحدها لأكثر من 200 رأس نووي، وعدم توقيعها على اتفاقية الحد من انتشار الاسلحة النووية.

تشتد الازمة والخناق على العراق وامريكا تلوح براية الحرب. ويحاول العراق الآن فتح الباب أمام المجتمع الدولي بدعوة كبير المفتشين في اللجنة الدولية هانز بليسك للتحاور. وصرح الناطق باسم الامم المتحدة بأن الدعوة المشروطة لا تتفق مع قرار مجلس الامن عام 1999، بعد ان خرجت اللجنة الدولية للتفتيش عام 1998. ولكن واشنطن صرحت بأن شرارة الضربة العسكرية لا ترتبط بعودة المفتشين، بل بالاطاحة بالنظام العراقي. وحسب قول جيرارد راسل، الناطق باسم الخارجية البريطانية «لم يعد هناك مجال للمناورات السياسية أمام النظام العراقي».

مرت ذكرى غزو الكويت في العراق، هذا العام دون احتفال، في محاولة من الجانب العراقي لتهدئة الاحقاد، ويبقى الموضوع الشائك والعالق الآن بين الكويت والعراق هو موضوع الـ 600 أسير الذين تدعي الكويت وجودهم في السجون العراقية. ونزع فتيل الازمة بحتمية الضربة العسكرية الوشيكة يكمن الآن في السماح بعودة فرق التفتيش للعراق دون شروط، ومحاولة التنازل السلمي للنظام لحكومة مدنية تكون أكثر تعاونا مع المجتمع الدولي وتلتزم بالشرعية الدولية، ويفك الحصار الذي اضحى عامل فتك للعراق، لا بد من التخلص من نيره.

[email protected]