دعوة للحجر على أمريكا!!

TT

أمريكا تتغول، ليس، فقط، لأن بوش الابن يحكمها بمعية تشيني ورامسفيلد بحسبانهم واجهة اليمين الوطني المتطرف والأصولية المسيحية المتهودة والمتصيهنة، وانما هي تتغول لأنها، في الأساس، محكومة بشروط تاريخية بنيوية كونها امبراطورية مطلقة، الأوحد في العالم، متماهية في روما القديمة معيدة انتاجها بوسائل سوبر تكنولوجيا، وقد تلاشى من مجالها الكوني (منافسها) السوفياتي المنقرض ذات صدفة تاريخية موضوعية، وتلاشت معه استراتيجيات الحرب الباردة وتكتيكاتها وضوابطها وأحلافها وأدبياتها واقتصادها.

وجدت امريكا نفسها، كما كانت روما القديمة: السيد الأوحد للتاريخ والحضارة، التي تفرض عدالتها ونظامها وأمنها وسلامها على كل العالم، و«تجب طاعتها والخضوع لسلطانها». وقد وصفها بلوتارك في كتيبه «حظ روما السعيد» بأنها «أصبحت، بالنسبة الى كل الأمم، كالفستا العذراء». والفستا هي آلهة النار حيث شعوب العالم فراشات تحوم حولها، أو هي «المدينة المختارة المحببة الى الآلهة، التي تتطلع اليها الشعوب الأخرى طامحة في النعم، أو شيء منها، التي تمنحها الآلهة الى الرومان وتخصهم بها».

أصبحت عظمة روما المعترف بها كونيا، المقياس المقرر الذي تقاس به كل عظمة! وقد تعلقت الشعوب جميعها بها، حسب أحد مفكريها «كما تتعلق الوطاويط في المغاور بالحجارة، وبعضها البعض، وهم يخشون، بعد ذلك، ان ينفصلوا عنها». ويضيف اليوس أرستيد «أن العالم كله يبدو وكأنه في عيد، لقد تخلت كل الحواضر عن منافستها، بل انها جمعيا أصبحت تتنافس على فكرة وحيدة: ان تبدو أكثر جمالا وأكثر اغراء وفتنة». هذه الرؤية الفكرية (الفلسفية) والاستراتيجية ظلت تحكم عقيدة روما ما قبل المسيحية وما بعدها بقرون، الى ان نهض في وجها القطب الاسلامي وأكتسح وجودها الكوني المهيمن في اسيا وافريقيا وسيلاحقها في عقر دارها عندما يحتل المسلمون جزيرة صقلية. فروما كانت، في نظر الشعوب المستضعفة، بمثابة حاضرة الشر الكوني، عاصمة الفساد والرذيلة. ان الأساطير لا تموت، فمن المدينة المختارة عند الرومان الى اسطورة «المدينة المنورة على التل» عند الأمريكان، كما جاء في موعظة قديمة/ مستمرة أطلقها السياسي اليميني الأصولي جون وينثرب عام 1630، وكررها بعده ريغان عندما وصف الاتحاد السوفياتي بـ«امبراطورية الشر» مقابل امريكا «امبراطورية الخير»، لأنه «علينا ان نكون المدينة فوق التل. وعيون كل الناس تنظر الينا». وهي موعظة أو ترنيمة ملازمة لحروب أمريكا الكبرى التي توصف دائما بأنها حرب بين الخير والشر. ان الاساطير لا تموت. فالمستعمرون البيض الأوائل، الانجلوبروتستانت، على وجه التحديد، حملوا معهم الى العالم الجديد اساطير التلمود عن الخلاص والفردوس الأرضي وتنصير الهنود واقامة «أمة تحت رعاية الرب»، أي مملكة اسرائيل في أرض المعياد (العالم الجديد) برعاية الصهيونية الامريكية، تمهيدا لقدوم المسيح المخلص، و«ان يجمعوا العالم في وحدة تجمعهم تحت ظلال النظام البيوريتانتي الانجليزي المقدس المهيمن على الدنيا بأسرها»، على حد تعبير لويس بيري في كتابه «تاريخ الحياة الثقافية في امريكا». وكانت فكرة تنصير العالم متداولة في الكنائس الانجيلية تحديدا، كما ان الكاثوليك حملوا معهم روح الحرب الصليبية، ومعروف ان كولمبس كان لديه مشروع دون كيشوتي من وراء رحلته لاكتشاف «العالم الجديد» والبحث عن الذهب، هو «تجهيز حملة صليبية لتحرير القدس».. والاساطير لا تموت، وانما تتوالد.

ان الحاجة للحرب مصل تغذية الامبراطوريات المطلقة لتفعيل التفوق العسكري وتنشيط الاقتصاد ورفع القدرات الانتاجية والتجارية ومراكمة الثروات، فـ«الثروة هي عامة ضرورية لتسند القوة العسكرية، والقوة العسكرية هي عامة ضرورية لاكتساب ثروة والاحتفاظ بها. ومع ذلك فاذا حُوّل جزء أكثر من اللازم من الموارد المالية لاستخدامه في أغراض عسكرية، فاننا نخاطر باضعاف القوة الوطنية على المدى البعيد»، حسب تحليل بول كنيدي في كتابه الفذ «قيام وانهيار القوى العظمى».

تعتقد امريكا انها رسول الديموقراطية، وعندما خرجت الى الحروب العالمية الكبرى كانت اغنيتها ان الامريكيين يؤمنون «بوجوب ان يحاربوا، وأن يضحوا ويموتوا ليجعلوا من هذا العالم دارا آمنة للديموقراطية».

واذا كان العالم اليوم، بعد الحادي عشر من سبتمبر، قد تغير، فان امريكا لم تتغير، وانما تريد من العالم ان يتغير وفقا لاستراتيجية يمينها الوطني/ الأصولي المتشدد (حتى لا نقول المتطرف)، الذي يعيد احياء الاساطير الانجيلية القديمة المؤمنة ايمان العجائز بان وجود اسرائيل ضرورة دينية للتسريع بقدوم المسيح، وان ما تراه هو ما يجب ان يراه العالم ويتبعه!

ويجب ان نفهم ان استراتيجية «الحرب الوقائية»، أو ما يروج على انه «عقيدة بوش»، المتولدة عن «الحرب على الارهاب»، تطرح كمعادلة بيوريتانية طرفاها «الخير والشر» على مبدأ: «معنا أو ضدنا»، المبدأ الذي يفرض تحول اراضي السيادة القومية للدول الى مسرح لمهمات امبراطورية بوليسية كونية مطلقة تقرر وحدها كيف يكون «العدل» واين؟ ومتي؟! فكما كتب هنري كسينجر («الشرق الأوسط» ـ 7/9/2002)، فان «السياسة الخارجية الاميركية أكثر ارتياحا مع مقولات الخير والشر منها مع حسابات المصلحة القومية للدبلوماسية الحكومية الاوروبية».. والقضية هنا اكبر من احتمال شن حرب شرسة ضد العراق، بحجة وجود صدام، وينتهي فيلم الاكشن الامريكي! وانما هي استراتيجية حربية بعيدة المدى تتخذ من منطق الوقاية خير من العلاج ذريعة مائعة «على أساس تعريفها هي للمخاطر التي يتعرض لها أمنها»، حسب كسينجر، أو حسب ما كتب جورج شولتز، وزير الخارجية الامريكية الأسبق («الشرق الأوسط» ـ 7/9/2002)، فاذا كانت هناك أفعى في الفناء، فان المرء لا ينتظر هجومها قبل ان يتخذ عملا دفاعيا عن نفسه». اذن، مثلما هناك اليوم افعى في العراق، ربما تظهر للامريكيين غدا أفعى في لبنان ثم في سوريا فاليمن فالسعودية، وهكذا دواليك من الافاعي التي لا يراها الا بوش وتابعه بلير!

ان امريكا في عهدة اليمين/ الأصولي المتصهين تشكل خطرا حقيقيا على العالم، فهي امبراطورية عظمي مارقة على المعاهدات الدولية ومواثيق حماية البيئة ومعاهدة التخلص من الأسلحة البيولوجية وحظر الالغام وشرعية المحكمة الدولية الجهذا ة والتأييد الاعمى للنازية الجديدة في اسرائيل، فهي، حسب جيمي كارتر («الشرق الأوسط» ـ 6/9/2002)، تخلت عن التزامها التاريخي بـ«السلام والعدل وحقوق الانسان والبيئة والتعاون الدولي»، وبذلك ليس من فراغ الدعوة الى الحجر على امريكا. الحجر على ذهنية «صراع الحضارات» التي تحولت الى عقيدة ايديولوجية لليمين الاميركي، والحجر على هيستريا العداء للاسلام، على منطق ملصقات الوسترن «مطلوبا حيا أو ميتا!»، وجنون القوة المطلقة الذي يزين لأمريكا القدرة على ان تفرض عدالتها ونظامها وأمنها وسلامها على كل العالم، الذي عليه ان يطيعها ويخضع لسلطانها، لكن العالم ليس عالم روما القديمة. فأمريكا تجد الرفض الصريح لجنون عظامها من العالم، ومن اوروبا حليفها العضوي بمجتمعها المدني ونخبها السياسية والفكرية والاعلامية. بل ان نزعتها الحربية الشرهة تجد رفضا قويا من قادة عسكريين امريكيين يعتقدون ان الحرب ضد العراق فكرة سيئة في غياب موقف دولي موحد!